على إجماع تام، وقفت الساحة السياسية لترثي قائد السبسي وتعدد مناقبه وخصاله، تاركة تقديراته الخاصة للأمور وطريقة إدارته للشأن العام للتاريخ، والذي أتاح له في أكثر من مناسبة أن يكون في واجهة الأحداث ومحركا أساسيا لها.
"خسرت تونس رجلا وفاقيا"، وفق تعبير قائد الرباعي الراعي للحوار الوطني والأمين العام السابق لـ"الاتحاد العام التونسي للشغل"، حسين العباسي لـ"العربي الجديد"، مبيناً أن الفقيد كان "يتمتع بتجربة وحنكة ودراية في تسيير دواليب الدولة سارت بالبلاد نحو درب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، إبان الثورة التونسية، وخلال توليه لرئاسة الجمهورية خلال هذه العهدة".
وأضاف العباسي أن قائد السبسي "رجل دولة ليس من السهل تعويض رجل بحجمه، بيد أن الأمل قائم بأن البلاد ولادة وقادرة على إنجاب من يضاهيه ويقدم للوطن ما يعادل ما قدمه الباجي قائد السبسي".
أما الأمين العام السابق للاتحاد، الذي يعرف عنه قربه من الفقيد خلال الحوار الوطني وحفاظه على صداقته به بعد ذلك، ولطالما جمعتهما لقاءات ومشاورات حول شأن البلاد والعمل النقابي؛ فقد دعا التونسيين إلى "الالتقاء حول ما يجمعهم كما التقوا حول الرئيس في وعكته السياسية الأولى وتمنوا له الشفاء، ثم تآزروا في مصاب وفاته وعزوا بعضهم البعض فيه حكما ومعارضة".
ويتفق مع العباسي أغلب المشاركين في الحوار الوطني على مهارة قائد السبسي آنذاك كمحاور ومفاوض خلال الأشغال وقبوله بالرأي المخالف وانصياعه لقواعد الديمقراطية، وهو ما أكده زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي في حديث لـ"العربي الجديد" أيضا.
وأشار الغنوشي في هذا السياق إلى أن الرئيس الراحل "كان يحمل رؤية مغايرة للنظام السياسي، إلا أنه قبل بقرار الأغلبية اعتماد النظام البرلماني، وحتى عند توليه الرئاسة إثر الانتخابات الرئاسية انضبط لحدود صلاحيات الرئيس الدستورية".
وعدد الغنوشي في حديثه لـ"العربي الجديد" خصال "الشجاعة" التي امتاز بها الباجي قائد السبسي، "والتي تجلت بإقدامه على مد يده للحوار مع الإسلاميين خلال فترة حرجة من عمر البلاد قادت سفينة الانتقال الديمقراطي نحو الاستقرار، بينما غرقت السفن الأخرى بسبب ضعف عقلية التوافق بين القديم والجديد، بين قوى ما قبل الثورة وبعدها"، على حد تعبيره.
وأضاف رئيس حركة "النهضة"، أنه "وبفضل سياسة التوافق نجت البلاد من التصادم وتعثر مسارها وتوطدت علاقتهما أيضا (الغنوشي والسبسي)، حتى أن الجفاء بينهما، الذي دام نصف سنة زال في آخر عهده، والتقيا مرات عديدة إثر ذلك، آخرها خلال احتفال عيد الفطر الأخير، ولم يفقد الاختلاف حول إعفاء الشاهد وحكومته من مهامه آنذاك، احترامهما لبعضهما، وبقي الود موصولا مع إصرار النهضة على الإشادة دوما بحنكة الرئيس ودوره"، على حد تعبير الغنوشي.
"الموت ألغى كل الخصومات"
"ألغى الموت كل الخصومات"، وفق عبارات رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي، الذي تحدث في لقاءات إعلامية عشية وفاة السبسي عن ضرورة التقاء التونسيين حول ما يجمعهم في هذا الظرف الأليم وتمسكهم بالدولة ومؤسساتها تحت مظلة الدستور.
وأضاف المرزوقي خلال مداخلة له في إذاعة محلية، أن حضوره في جنازة قائد السبسي الوطنية شرف وضرورة وسيحمل نعش الفقيد على كتفيه.
وحرك مرض السبسي ووفاته الكثير من المشاعر الإنسانية لدى التونسيين جميعا وحلفائه وخصومه أيضا وبكته شخصيات وطنية مقربة منه كما أثر موته في معارضيه.
وخلال خمس سنوات من عهدته الرئاسية، اختلف مع الرئيس الراحل التيار الديمقراطي وعارضته قياداته بشراسة بيد أنها تعترف بشرعيته الانتخابية منذ توليه، وتشهد له بأنه لم يغتل معارضيه أو يعذبهم ولم يستبد بالحكم أو يستعمل أجهزة الدولة لقمع المواطنين.
ولهذه الأسباب، أوضح أمين عام التيار الديمقراطي محمد عبو في حديثه لـ"العربي الجديد" أن هذا البعد الإنساني الذي بدا جليا في رد فعل المعارضة خلال توعك صحة الرئيس، أو إثر إعلان خبر الوفاة "يتطلب دراسة سياق كامل مغاير لما يبدو عليه السياق العربي، فهذا التعاطف الشديد والحزن يبلغ رسالة سياسية للمستبدين في العالم مفادها أن الوسيلة الوحيدة لكسب احترام الشعب وتعاطفه هو الالتزام بقيم الديمقراطية والحرية والتعددية".