لطالما اعتمد لبنان الرسمي سياسة واضحة في التعامل دولياً مع الموقف من "حزب الله". كان دوماً يردد حق لبنان في الدفاع عن نفسه بكل السبل، معطوفاً على الفصل الدائم بين لبنان-الدولة وبين "حزب الله"، واستناداً في ذلك إلى أولوية حماية الدولة ولبنان من الاستهداف الإسرائيلي، وكانت هذه السياسة بموافقة "حزب الله" نفسه. في الأيام الأخيرة وعقب التطورات التي حصلت جنوباً يوم الأحد الماضي، وقبلها إسقاط الطائرتين المسيّرتين فوق الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 25 أغسطس/آب الماضي، واستهداف الطيران الإسرائيلي مواقع لقوات إيرانية في عقربا قرب دمشق، ليل 24 أغسطس الماضي، والتي سقط فيها عنصران من حزب الله، بدا واضحاً أن لبنان الرسمي تخلى عن هذه السياسة لمصلحة التماهي مع "حزب الله" في الموقف، خصوصاً من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي وصف هجوم الطائرتين المسيّرتين بأنهما "إعلان حرب"، متجاوزاً حتى موقف "حزب الله"، فيما اكتفى الحريري وقتها بالقول: "لا نخاف إلا من الله".
عملياً، أعاد بيان الحريري شكلياً إلى لبنان-الدولة الدور الذي عادة ما كانت تؤديه في مثل هذه الظروف، وهو الدور الدبلوماسي الذي عرف به يوماً رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، خصوصاً في عام 1996 إبان عملية "عناقيد الغضب"، وكان نتيجته تفاهم نيسان، وكذلك في حرب يوليو/تموز 2006، عندما تولى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة المهمة الدبلوماسية، والتي كان نتيجتها القرار الدولي رقم 1701، على الرغم من تحفّظ "حزب الله" لاحقاً على هذا الدور. الفارق خلال الساعات الأخيرة أن الدور الدبلوماسي اللبناني بدا مترهلاً، خصوصاً أنه حصل الكثير من التغيرات بين عامي 2006 و2019. قبل الثورة السورية (2011)، كان الصراع بين لبنان و"حزب الله" من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، فيما بات اليوم بين المحور الإيراني وبين إسرائيل.
عملياً، فرض "حزب الله" معادلات جديدة تتخطى الدولة اللبنانية. وقال الحريري مراراً ذلك، في سياق سياسة مهادنة الحزب داخلياً، مستنداً إلى تحول ملف "حزب الله" إلى ملف إقليمي ودولي، وبالتالي لم يعد للبنان قدرة على التأثير فيه. كما أنه من جملة ما يمكن رصده في الساعات الأخيرة، غياب الموقف المعتاد لبعض القوى السياسية التي عادة ما تتحدث في مثل هذه الظروف عن ضرورة الاستراتيجية الدفاعية، وعن قرار الحرب والسلم، وعن حصره بيد الدولة، باستثناء موقف حزب الكتائب، ورئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، في ظلّ تكرار إسرائيل معزوفة استهداف لبنان في الفترة الأخيرة، وتحميل لبنان-الدولة مسؤولية أي عملية لـ"حزب الله". ووسط غياب المواقف السياسية وللدولة اللبنانية، يبقى الحديث عن الاستراتيجية الدفاعية، وكأنه "مضى عليه الزمن"، وفق تعبير أحد قيادات قوى "14 آذار" السابقة، وذلك لجملة من الاعتبارات، أولها أن هذه الاستراتيجية كان الهدف منها حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، فيما دور "حزب الله" اليوم بات أكبر بكثير في ظلّ الصراع الأميركي-الإيراني، مع إمساكه بالقرار السياسي اللبناني.