وعلى غرار جميع عمليات التهجير السابقة التي شهدتها سورية وطاولت معاقل فصائل المعارضة، والتي يطلق عليها النظام وداعمته روسيا اسم "مصالحات" أو اتفاقات، كانت باصات التهجير أمس جاهزة لتتولى مهمة نقل المهجرين إلى إدلب التي تحولت إلى أكبر مركز لتجمع المهجرين في سورية. وأتى ذلك فيما لخص رئيس المجلس المحلي لحرستا، حسام البيروتي، لوكالة "فرانس برس"، أسباب ما آلت إليه الأوضاع في حرستا من قبول بالتهجير بالقول إن "حرستا حوصرت من دون مقومات طبية وإغاثية، دمرت بالكامل وأحوال الناس باتت في الويل". وأضاف "خلال الأسبوع الأخير، لم تجد خمسون في المائة من العائلات ما تأكله، وانتشر الجرب والمرض في الأقبية، وبالإضافة إلى ذلك كانت الصواريخ تطاول حتى الأقبية، حوالى خمس مجازر حصلت في الأقبية". وأتى تهجير سكان حرستا بعد تهجير عشرات الآلاف من أهالي الغوطة في الأيام الماضية باتجاه مناطق سيطرة النظام في ريف دمشق إلى مراكز إيواء أشبه بمعسكرات اعتقال تفتقر لأي من مقومات الحياة.
كما ترافقت عمليات التهجير أمس، مع مواصلة قوات النظام والمليشيات الطائفية التي تقاتل معها مسنودة بسلاح الجو الروسي، محاولاتها تحقيق مزيد من التوغل في مناطق الغوطة الشرقية، خصوصاً في منطقة وادي عين ترما، فضلاً عن شمال الغوطة، بالترافق مع قصف جوي ومدفعي جنوني حصد أرواح عشرات المدنيين في شمال الغوطة وجنوبها، منهم عشرات القتلى في مدينة زملكا وحدها.
وبدأت أمس الخميس عملية تهجير نحو 1500 من مقاتلي "حركة أحرار الشام" من مدينة حرستا المحاصرة مع ستة آلاف من عائلاتهم باتجاه الشمال السوري، على متن حافلات تابعة للنظام السوري، يرافقها الهلال الأحمر السوري، وذلك بموجب "اتفاق" بين ممثلي المدينة والنظام برعاية روسية.
وذكرت وكالة "سانا" الرسمية أن قافلة من سيارات الهلال الأحمر العربي السوري والحافلات دخلت دوار الثانوية في حرستا، تمهيداً لإخراج المسلحين وعوائلهم من المدينة، مشيرة الى أن عملية الترحيل ستتم على دفعتين، غادرت الأولى أمس الخميس على متن 50 حافلة. وذكرت "سانا" بأنه جرى أيضاً تنظيم عملية تبادل للأسرى بين قوات النظام و"أحرار الشام"، إذ تم إطلاق سراح 13 أسيراً لدى الحركة تراوحت فترات اعتقالهم بين ثلاثة أشهر وثلاث سنوات مقابل تسليم 5 من مقاتلي الحركة المعتقلين لدى النظام.
من جهته، أفاد التلفزيون السوري الرسمي بخروج أكثر من 1130 شخصاً بينهم 237 مسلحاً من حرستا الواقعة على بعد حوالى خمسة كيلومترات شرق العاصمة، حتى ساعات بعد ظهر يوم أمس وسط تقديرات أشارت إلى أن العدد الكلي للمهجرين أمس بلغ نحو ألفي شخص بينهم 700 مسلح.
وكانت عشرات الحافلات البيضاء قد توقفت منذ الصباح الباكر على جانب الطريق المؤدي من دمشق إلى حرستا قبل أن يدخل عدد منها إلى المدينة لنقل المغادرين. وكان من المفترض أن تبدأ عملية الإجلاء عند الساعة السابعة صباحاً لكنها تأخرت ساعات. وحصلت قبل الظهر عملية تبادل معتقلين بين القوات الحكومية والفصائل المعارضة.
وقال الناشط الإعلامي، قيس الحسن، الموجود في الغوطة، في حديث مع "العربي الجديد"، إن عملية التهجير من المرجح أن تتم على دفعتين أو ثلاث، وقد تستغرق ثلاثة أيام. وأشار إلى أن مقاتلي حركة "أحرار الشام" سيخرجون بسلاحهم الخفيف فقط، والمرجح أنهم تخلصوا من الأسلحة الثقيلة قبل خروجهم، عبر التدمير أو الحرق، حتى لا يقع بيد قوات النظام.
وأوضح الحسن أن أكثر من عشرة آلاف مدني سيبقون في المدينة. علماً بأن الاتفاق مع النظام يقضي بفك الحصار عن حرستا وعودة الأهالي إليها، لكنه استبعد أن تلتزم قوات النظام بالبند الخاص بعودة الأهالي الموجودين في مناطق سيطرة النظام، خصوصاً أن سياستها تقضي بتهجيرهم من مناطقهم، وليس تسهيل عودتهم.
لكن المتحدث باسم حركة "أحرار الشام"، منذر فارس، قال في تصريحات صحافية إن الاتفاق يقضي بخروج المقاتلين بسلاحهم بضمانات روسية، فيما تعطي روسيا والنظام ضمانات للأهالي الذين يرغبون بالبقاء، دون تهجير أو تغيير ديمغرافي. وأوضح أن الاتفاق جاء بعد اجتماع استمر لساعات مع وفد من النظام، وهو يقضي أيضاً بتشكيل لجنة مشتركة من أهالي حرستا في الداخل والخارج من أجل متابعة أمور من بقي في المدينة ومتابعة أمور المعتقلين وتسيير شؤون المدينة.
وتوجد، حركة "أحرار الشام" بشكل رئيسي في حرستا، لكنها تمتلك وجوداً أقل في مناطق أخرى من الغوطة خصوصاً في جنوب الغوطة إلى جانب فيلق الرحمن، ولا يشمل الاتفاق سوى مقاتلي الحركة في حرستا. من جهته، قال المجلس المحلي في مدينة حرستا إن عملية التهجير تأتي "بعد معاناة لعشرين ألف مدني منذ أربعة أشهر ودمار 90 في المائة من المدينة المحاصرة، في ظل القصف والتصعيد العسكري من قوات النظام السوري مدعومة بروسيا". وجاء في بيان للمجلس نشره عبر صفحته في فيسبوك أن "قرار خروج المقاتلين ومن يرغب من الأهالي من مدينة حرستا نحو شمالي سورية كان صعباً للغاية، وجاء بسبب تواطؤ العالم بأسره وصمته عن جرائم النظام وحليفته روسيا، والذي لم يترك سلاحاً محرماً دولياً إلا واستخدمه ضد المدنيين". وأضاف المجلس أن قرار الخروج يأتي أيضاً وسط استحالة علاج الجرحى والمرضى وخروج الأقبية والملاجئ عن الخدمة بسبب استهدافها بالصواريخ الارتجاجية، مشيراً إلى قصف المدينة بآلاف الغارات الجوية والصواريخ ما أدى لمقتل عشرات المدنيين.
وفي إطار سياسة التهجير نفسها، غادر أمس مئات المدنيين مدينة دوما في الغوطة الشرقية نحو مناطق سيطرة النظام في محيط العاصمة دمشق بالتزامن مع عودة الحديث عن مفاوضات يجريها النظام مع فصائل المعارضة، أو ممثلي مناطق المعارضة في الغوطة، للتوصل إلى اتفاقات مشابهة لاتفاق حرستا، وهو أمر كان نفاه سابقاً "جيش الإسلام".
وقال ناشطون إن المفاوضات في دوما تقضي بوقف إطلاق النار وعدم تهجير أهالي المدينة، فيما أفاد الناشط قيس الحسن بأن عدة مئات من المدنيين، بينهم مرضى ومرافقوهم، توجهوا عبر معبر مخيم الوافدين إلى نقاط سيطرة النظام، في حين بثت وسائل إعلام روسية تسجيلات مصورة من المعبر، أظهرت حركة المئات. ونقلت عن مركز المصالحة الروسي في سورية، قوله إن أكثر من ألف مدني خرجوا من الغوطة حتى ظهر أمس.
وقالت مصادر إنه جرى تحويل بعض من خرجوا نحو منطقة نجها بين دمشق والسويداء، والتي أصبحت مركز إيواء جديدا، إلى جانب حرجلة وعدرا والدوير في ريف العاصمة. من جهتها، ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن أكثر من 86123 مدنياً غادروا الغوطة الشرقية منذ بداية سريان مفعول ما تسميه "الهدنة الإنسانية" الروسية.
وكانت الأمم المتحدة فد انتقدت أول من أمس الأربعاء مراكز الإيواء التي خصصها النظام السوري للفارين من حملته العسكرية في الغوطة الشرقية. وقال الممثل المقيم لأنشطة الأمم المتحدة في سورية، علي الزعتري، لوكالة "فرانس برس" إن "الوضع مأساوي" في مراكز الإيواء في عدرا. واعتبر الزعتري غداة زيارته عددًا من مراكز الإيواء في ريف دمشق أنها غير مهيأة لاستقبال المدنيين، مضيفاً أنه لو كان مواطناً لما قبل البقاء فيها خمس دقائق، فالمدنيون "هربوا من القتال وعدم الأمن في الغوطة إلى مكان لا يجدون فيه مكاناً للاستحمام".
في موازاة ذلك واصل النظام السوري حملته العسكرية على الغوطة محاولاً التقدم من عدة محاور، بالتزامن مع قصف جوي عنيف أسفر عن مقتل عشرات المدنيين. واستهدفت الطائرات الحربية بأكثر من 15 غارة مناطق في مدينة زملكا، بالتزامن مع قصف جوي على عدة مناطق في عربين وعين ترما، الأمر الذي تسبب في مقتل 19 شخصاً بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، في حين تحدث ناشطون عن أرقام أعلى من ذلك بكثير قد تصل الى خمسين شخصا في زملكا وحدها، بحسب ما أفاد به الناشط الموجود في الغوطة أنس الخولي في حسابه على "تلغرام".
وتحدث الناشطون عن قصف عنيف بالطيران الحربي والأسلحة المحرمة دولياً استهدفت المنطقة بأكثر من 70 غارة جوية، منها غارات بالنابالم الحارق، فضلاً عن قصف بـ 40 صاروخا عنقوديا، و14 صاروخا فوسفوريا، وأكثر من 400 قذيفة مدفعية و150 صاروخ راجمة منذ منتصف ليلة الأربعاء حتى بعد ظهر الخميس، ما أدى إلى احتراق مساحات كبيرة من الأحياء السكنية.
من جهته، أعلن الدفاع المدني مقتل 11 مدنياً نتيجة قصف قوات النظام السوري على مدينة دوما المحاصرة، مشيراً إلى أن ثمانية مدنيين بينهم ثلاثة متطوعين من فرقه قتلوا جراء قصف مدفعي لقوات النظام السوري على الأحياء السكنية في دوما، فيما قتل ثلاثة مدنيين متأثرين بجراح أصيبوا بها في قصف سابق.
ويترافق تصعيد القصف، مع المحاولات الحثيثة التي تقوم بها قوات النظام للسيطرة على مزيد من المناطق في الغوطة الشرقية. وقال الإعلام الحربي التابع للنظام إنه تمت السيطرة على نحو 70 في المائة من المزارع المحيطة ببلدة عين ترما في الغوطة الشرقية، حيث تسعى قوات النظام للسيطرة على الوادي ومن ثم مدينة عين ترما بهدف فصل حي جوبر عن باقي مدن الغوطة. من جهته، قال المتحدث باسم "جيش الإسلام"، حمزة بيرقدار، إن 12 عنصراً من قوات النظام ومليشياته قُتلوا على جبهة الريحان في الغوطة الشرقية خلال محاولات تقدم فاشلة.