مع صدور الحزمة الأولى من العقوبات الأميركية على النظام السوري بموجب "قانون قيصر"، الذي دخل حيّز التنفيذ أول من أمس الأربعاء، بات واضحاً أن واشنطن تسعى إلى إنهاك النظام ومحاصرته اقتصادياً بفعل تضمين الحزمة أسماء العديد من رجال الأعمال والاقتصاديين والشركات الذين يقدمون خدمات للنظام، ويساهمون بأنشطة مالية واقتصادية لمصلحته ومصلحة عائلة الأسد الحاكمة. وشملت الحزمة التي أُعلنت على لسان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، أسماء 39 شخصية وكياناً داخل النظام السوري، أو تعمل إلى جانبه. وسيكون تأثير إدراج هؤلاء ضمن قائمة العقوبات واضحاً على البنية العسكرية والسياسية للنظام، وقد يكون عدم التوسع في قائمة المؤثرين في الشق السياسي والعسكري خلال هذه الحزمة وإدراج عدد قليل منها، كإنذار من الولايات المتحدة للنظام، بأنه إذا لم تتوقف العمليات العسكرية ضد السوريين، واستمرّ بعرقلة إحراز تقدم في الحل السياسي، فإن العقوبات في هذين الجانبين ستكون أشمل وأعمّ في حزم أو لوائح لاحقة.
على الصعيد العسكري، شملت الرسالة الأولى من العقوبات جانبين مهمين: الأول متعلق بالمنظومة العسكرية للنظام، من خلال إدراج "الفرقة الرابعة" وقائدها ماهر الأسد واثنين من ضباط الفرقة المهمين في العقوبات. والثاني يتعلق بالنشاط العسكري الإيراني المليشياوي داخل سورية، من خلال إدراج مليشيا "فاطميون" الأفغانية، التي أسسها "الحرس الثوري الإيراني" وتمولها إيران مباشرةً.
وفي ما يتعلق بـ"الفرقة الرابعة"، فإنها تُعدّ أهم وحدة مقاتلة في قوات النظام، ويعتمد عليها بشار الأسد، وأبوه من قبله، بشكل رئيسي لحماية نظام الحكم، منذ تأسيسها عام 1984 على أنقاض ما كان يعرف بـ"سرايا الدفاع" التي أسسها رفعت الأسد، شقيق الرئيس السابق للنظام حافظ الأسد وعمّ الرئيس الحالي. وشاركت الفرقة وعناصرها بعمليات دهم ومحاصرة المدن والبلدات الثائرة على حكم النظام منذ اندلاع الاحتجاجات عام 2011، بدءاً من درعا ثم دمشق وريفها وحمص وغيرها من المناطق، وارتكبت جرائم حرب وعمليات قتل وتدمير وتهجير واسع بحق السوريين على أساس طائفي.
ومنذ التدخل العسكري الروسي المباشر في البلاد عام 2015، حاولت إيران الهيمنة على الفرقة من خلال قائدها ماهر الأسد، شقيق بشار، المشمول كذلك بحزمة العقوبات الأولى من "قانون قيصر"، فبات ماهر الأسد، المعروف بدمويته وطائفيته ولجوئه إلى الحلول العسكرية التدميرية دائماً، رجل إيران في سورية، ما وضعه أمام العميد سهيل الحسن الذي تعتمد عليه روسيا عسكرياً في تثبيت وجودها في البلاد.
وبدا واضحاً أن من أهداف العقوبات تقويض الآلة العسكرية للنظام من خلال الفرقة، وخصوصاً العميد غسان بلال، ضابط أمن الفرقة ومدير مكتب ماهر الأسد، وقائد اللواء 41 مدرعات، العميد سامر الدانا. ويُشار إلى الأول على أنه صلة الوصل بين إيران وماهر الأسد، وعراب اقتصاد ماهر والفرقة الرابعة من خلال عمليات نشر الحواجز في مختلف المناطق السورية. ومن أبرز المهمات الرئيسية لهذه الحواجز، فرض "الإتاوات" (الخوات) على عبور البضائع والمارة عليها، بالإضافة إلى اعتقال عدد كبير من الأشخاص بهدف ابتزاز أهاليهم والتفاوض على إخراجهم مقابل مبالغ مالية طائلة. مع العلم أنه في منتصف العام الماضي تداولت وسائل الإعلام خبراً عن ملاحقة بلال من قبل الروس ومحاولة تحجيم دوره، ما اضطره إلى الاختفاء لبعض الوقت. أما الثاني، اللواء سامر الدانا، فلا تتوافر الكثير من المعلومات عنه، سوى أنه قائد اللواء 41 مدرع في الفرقة الرابعة، بعد تعيينه من قبل ماهر في منتصف عام 2017، إلا أن هذا اللواء كان له دور كبير في اقتحام المدن والبلدات السورية الثائرة على حكم النظام منذ عام 2011، ولا سيما في الزبداني والغوطة الشرقية وريف دمشق عموماً، بالإضافة إلى حمص.
وتُظهر الحزمة الأولى من العقوبات أنها تحاول تحجيم الدور العسكري للنظام وإيران مقارنة بالدور الروسي، فلم يُدرَج اسم العميد سهيل الحسن، قائد "الفرقة 25" التي أسستها روسيا، وهو رجلها الأول في سورية. كذلك إن إدراج مليشيا "فاطميون" المدعومة والممولة إيرانياً ضمن لائحة العقوبات، يأتي في سياق مسعى لتطويق الوجود الإيراني العسكري والسياسي وحتى الاقتصادي في البلاد، وتهديد توسع النشاط العسكري للنظام والإيرانيين بالمجمل، في وقت تحشد فيه قوات النظام ومليشيات إيرانية قوات على خطوط التماس في إدلب بنية تنفيذ عمل عسكري. وقد تجبر العقوبات الأخيرة النظام والإيرانيين على إعادة التفكير قبل الإقدام على فتح معركة إدلب.
وفي معرض الرد الإيراني على العقوبات، اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي أمس الخميس، أن العقوبات الأميركية الجديدة على النظام "إرهاب اقتصادي"، ولن تؤدي إلا إلى "زيادة معاناة" الشعب السوري. وذكر في بيان أن إيران "لا تحترم مثل هذه العقوبات القاسية الأحادية والعدائية، وتعتبرها إرهاباً اقتصادياً ضد الشعب السوري"، مضيفاً أن "هذه العقوبات مخالفة للقانون الدولي والقيم الإنسانية"، وستساهم فقط في "إطالة معاناة الشعب السوري". وأكد أن طهران ستحافظ على علاقاتها الاقتصادية مع دمشق.
سياسياً، كان جلياً استهداف العقوبات بشار الأسد دون غيره من أعضاء الحكومة أو السياسيين داخل النظام، فالزجّ باسمه يعتبر ضغطاً أميركياً عليه تحديداً، للانخراط جدياً بعملية الحل السياسي وفق الرؤية الأميركية ومرجعية الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة، ولا سيما القراران 2118 لعام 2013 و2254 لعام 2015، ومسار جنيف لحل القضية السورية. وربما فسّر ذلك عدم إدراج اسم سفير النظام إلى الأمم المتحدة بشار الجعفري، الذي ترأس وفود النظام التفاوضية في كل من مساري جنيف وأستانة، بلائحة العقوبات الأولى لـ"قانون قيصر"، وعدم إدراج أعضاء قائمة النظام لمسار اللجنة الدستورية، ولا حتى رئيسها أحمد الكزبري، عضو "مجلس الشعب" ورئيس "لجنة الشؤون التشريعية والدستورية" داخله، بغرض ترك الباب مفتوحاً أمام تقدم النظام أكثر باتجاه الانخراط في المسارات السياسية وعدم عرقلتها كما فعل من قبل.
مع العلم أنه أُدرِج اسم محافظ دمشق عادل أنور العلبي، ضمن الحزمة، في تفسير لضلوعه في أدوار ونشاطات هدفها إحداث عمليات تغيير ديموغرافي في محيط العاصمة دمشق، من خلال مركزه كمحافظ وإدارته لشركة "دمشق القابضة"، وهي الشركة التي تشكّلت من تزاوج القطاعين الخاص والعام، وتشرف على مشاريع من شأنها تغيير ملامح دمشق كمشروع "ماروتا سيتي"، الذي يهدف إلى إزالة الكثير من الأحياء، وسكانها من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة المتعاطفين مع الثورة، واستبدالها بمشاريع فخمة ينتقل إليها المنتفعون وأصحاب المصالح مع النظام. وهذا ما ركزت عليه وزارة الخزانة الأميركية في تبريرها لانتقاء أسماء الحزمة الأولى، بالحد من عمليات التغيير الديموغرافي.
في هذا الإطار، يعتبر الخبير القانوني محمد صبرا، أن "اللائحة الأولى من العقوبات مهمة جداً على الصعيد السياسي، لكونها تضمن الكثير من الرسائل للنظام وداعميه، وللسوريين كذلك"، وموضحاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "وزارة الخزانة الأميركية، في شرحها لأسباب إصدار لائحة العقوبات، تعمل على منع النظام من إحداث عمليات تغيير ديموغرافي عميق في المجتمع السوري والمناطق المختلفة". ويشير إلى أن "وزارة الخزانة حددت سبب التصنيفات وراء العقوبات، بأنها تأتي بسبب التغيير العمراني في الأراضي التي صادرها النظام من السوريين بعد أن شردهم. من هنا يعتبر ذلك تصويباً واضحاً حول عمليات تهجير السكان من أصحاب الطبقة العاملة، الذين لا يؤيدون النظام، من محيط دمشق واستبدالهم بسكان جدد أكثر ولاءً للنظام مع مشاريع فخمة".
ويشير صبرا إلى أن "هذا المنحى يعتبر نقطة انطلاق مؤسسة لما سيأتي بعد من عقوبات، فالرسالة واضحة من خلال اسم القانون وإشارته إلى حماية المدنيين، بأن على السوريين أن يعودوا إلى أماكن سكنهم الأساسية، وإيقاف مصادرة مستقبل البلاد من قبل النظام والروس والإيرانيين، من خلال عمليات التغيير الديموغرافي التي ركزت عليها الحزمة الأولى دون سواها".
وسبق أن حاول النظام تعطيل كل قنوات الحل السياسي طوال الفترة الماضية، ونجح بذلك، فجولات مسار جنيف الأممي، لم تستطع تطبيق السلال الأربع التي حددها المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا، بناءً على قرار مجلس الأمن 2254، وهي على الترتيب: الانتقال السياسي، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب، بفعل مماطلة النظام محاولاً الالتفاف عليها، إلا أن الضغوط الدولية أجبرته على قبول الانخراط بمسار اللجنة الدستورية، وهو مسار عمد النظام إلى تعطيله كذلك بتقديم جداول أعمال لجلسات اللجنة، لا تدخل في نطاق عملها، محاولاً عرقلتها ونجح إلى حد الآن.
أما مسار أستانة، المعروف بكونه ذا اختصاص عسكري جغرافي أكثر منه سياسياً، فإن وجود إيران وروسيا مقابل تركيا بمفردها في هذا الملف، كان لمصلحة النظام، الذي تجاوز كل مخرجاته من خلال عمليات التقدم العسكرية بغطاء روسي وإيراني، فيما كان الدور التركي أقل دعماً للمعارضة، رغم تحسنه في المراحل الأخيرة من العمليات التي توقفت باتفاق وقف إطلاق النار في موسكو، في 5 مارس/ آذار الماضي. ويستعد النظام حالياً لخرق الاتفاق وإنهائه بحشد قواته على خطوط التماس في إدلب ومحيطها، في توجه للهرب من الضغوط الداخلية التي سيفرضها تطبيق "قانون قيصر"، بشنّ عمل عسكري قد يكون محدوداً، نظراً لقوة الردع العسكرية التركية، التي زجّت بها الأخيرة إلى إدلب في سبيل مواجهته.
وتشير المادة الثانية من "قانون قيصر"، المتعلقة بالسياسة العامة له وللولايات المتحدة التي أصدرته، إلى أنه "ينبغي استخدام الوسائل الاقتصادية الدبلوماسية والقسرية، لإجبار حكومة بشار الأسد على وقف هجماتها القاتلة على الشعب السوري، ودعم الانتقال إلى حكومة في سورية، تحترم حكم القانون وحقوق الإنسان والتعايش السلمي مع جيرانها". وتفسر هذه المادة الرغبة الأميركية الأولى من وراء تطبيق القانون، بالدفع إلى تحقيق عملية انتقال سياسي، قد تطيح النظام الحالي برمته.