لم يكن صباحاً اعتيادياً؛ فقد استيقظ معتصمو ميدان التحرير للمرة الأولى، وقد تغيرت خارطة الميدان، لكثرة المستشفيات الميدانية المنشأة خصيصاً لعلاج المصابين، الذين قرروا الصمود ورؤوسهم تلفّها ضمادات الشاش، ومن فوقها يضعون أوانيَ بلاستيكية ونحاسية حمايةً لهم من غدر مباغت.
هكذا كان صباح اليوم التالي لواقعة قتل المتظاهرين يوم الثاني من فبراير/شباط 2011، المعروفة إعلاميًا بـ"موقعة الجمل"، وصباح كل يوم تالٍ.
موقعة الجمل، تمت عبر هجوم بالجمال والبغال والخيول في ما يشبه معارك العصور الوسطى في يوم 2 فبراير/شباط 2011 في محاولة لإخلاء ميدان التحرير من المتظاهرين المعتصمين منذ 25 يناير/كانون الثاني 2011. وكان من بين المهاجمين مجرمون خطرون تم إخراجهم من السجون للتخريب ولمهاجمة المتظاهرين، ويطلق عليهم اسم "البلطجية". وسقط فيها 11 قتيلاً من المتظاهرين و2000 جريح على الأقل.
اتهمت التقارير الأولية للجنة تقصّي الحقائق، النظام الحاكم آنذاك، نظام الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، بأنه أراد السيطرة على ميدان التحرير وإرغام المتظاهرين المعتصمين فيه على مغادرته. لكن في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2012 حكمت المحكمة ببراءة جميع المتهمين.
وأسدل الستار على الواقعة؛ بعدما أصدرت محكمة النقض، حكما نهائيا وباتًّا بتأييد الحكم الصادر من محكمة جنايات القاهرة، ببراءة جميع المتهمين في قضية قتل المتظاهرين، المعروفة إعلاميا باسم "موقعة الجمل".
وكانت قائمة المتهمين، الذين برأتهم المحكمة، تضم النائب عبد الناصر الجابري، عضو مجلس الشعب السابق عن دائرة الهرم، ومساعده يوسف خطاب عضو مجلس الشورى عن الدائرة ذاتها، والأمين العام السابق للحزب الوطني، صفوت الشريف، وعائشة عبد الهادي وزيرة القوى العاملة السابقة، وحسين مجاور رئيس اتحاد العمال الرسمي، ورجل الأعمال وعضو الهيئة العليا للحزب الوطني الديمقراطي، إبراهيم كامل، والمستشار مرتضى منصور.
يتذكر المحامي والناشط السياسي المصري، زياد العليمي، ذلك اليوم قائلاً: "مثل هذا الوقت في العاشرة والنصف مساء بتاريخ 2 فبراير/شباط 2011 جاءتني مكالمة من الأستاذ ضياء رشوان، قائلاً "-زياد، الراجل خلاص ماشي بعد 6 شهور، والنَّاس دي اتجننت، فأنا وعمرو موسى وقيادات بالمجلس العسكري هنطلع بيان باسمكم بتطلبوا فيه انسحاب آمن من الميدان، والجيش هيأمن خروجكم، وهيضمن إن محدش هيقرب لحد فيكم.
- لأ، إحنا قاعدين ومحدش هيتحرك غير لما مبارك يمشي، ده اللي الناس قايلاه من أول يوم، وده اللي إحنا ملتزمين بيه.
- الراجل خلاص قال إنه ماشي خلال 6 شهور، ودول مجانين وهيقتلوكم، دول اتجننوا فعلًا، وأنا قلقان عليكم.
- ماهم قدامي، وشايف إنهم جايين يقتلونا، ولو مشينا برضه هيقتلونا، يبقى نموت هنا، وتبقى فضيحة تطارد النظام كله، بدل ما نموت على جنب.
- بس إنت كده بتقرر نيابة عن زمايلك إنهم يموتوا، خد رأيهم!
- تمام، لو سمحت، كلمني خلال نص ساعة نكون قعدنا واتناقشنا، قراري الشخصي إني قاعد، وأقول لك القرار الجماعي".
ويتابع "خلال أقل من نصف ساعة قرر ممثلو المجموعات المختلفة، وبدون تفكير أو تردد لحظة واحدة، البقاء، شكرا لكل واحد يمثل مجموعة رفض الرحيل يومها".
أنهى العليمي حديثه عن هذا اليوم، وفق ما كتب عبر حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قائلا: "من يومها، عرفت أن باب الخروج الآمن، اتقفل - لينا وليهم - وأخدنا طريق واحد، مالهوش رجوع. شكرا لكل بطل وقف يومها، وبعدها يدافع عن حلمه، ضد مجرمين جايين م الماضي، وعاوزين يرجعوا بلدنا ليه تاني".
ناصر عويس، (34عامًا) كان أحد شهداء الموقعة. قتل يوم 3 فبراير/شباط عام 2011، فجرًا، برصاصتين فجّرتا رأسه، بعدما قضى ليلته في ميدان التحرير، يصد هجوم البلطجية المعتدين على ثوار ميدان التحرير.
عويس وعشرة آخرون، قُتلوا، فيما أصيب المئات. ومنذ ذلك اليوم، أصبح اعتصام ميدان التحرير يبات لياليه حتى تنحّي مبارك، وهو مقسم ما بين نيام وحراس.
حالة الاستنفار تلك، وتقاسم المهام بشكل فوري وسريع دون تخطيط مسبق، انتهجها المعتصمون في أحداث سياسية لاحقة، مثل محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو وغيرها. هذا ما تعلموه من الثورة.