يؤكد سكان مخيم شعفاط وبلدة كفر عقب إلى الشمال من القدس المحتلة، أنهم باقون حيث هم، غير مكترثين بمشاريع سلطات الاحتلال الإسرائيلي الهادفة إلى نقل الإشراف على أحياء وبلدات فلسطينية في القدس الشرقية المحتلة، والتي تخضع لإشراف الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام الإسرائيلي فقط، إلى الجيش الإسرائيلي. ويسود إجماع في هذه المقدسية على أنه حتى لو مرّت مشاريع الاحتلال بنقل السيطرة من الشرطة إلى الجيش على هذه المناطق، فإن ذلك لن يغيّر من بقائهم ومقاومتهم للاحتلال، كما يقول ثائر الفسفوس، أحد كوادر حركة "فتح" في مخيم شعفاط والمتحدث الإعلامي باسم الحركة في المخيم.
يشير الفسفوس، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن استهداف المخيم بالإزالة والعزل ونقل سكانه كان مخططاً قديماً طرحه لأول مرة الرئيس الأسبق لبلدية الاحتلال في القدس تيدي كوليك، تحت شعار "ابن بيتك بنفسك"، بعد أن قدّم عروضاً إغرائياً لسكان المخيم بتمويل نقلهم إلى المنطقة الصناعية في واد الجوز بمدينة القدس، أو إلى منطقة أريحا شرق الضفة الغربية، وهو مخطط قاومه لاجئو المخيم آنذاك وأفشلوه، ولم يجد لاجئاً واحداً يتجاوب معه، كون المخيم جزءاً من قضية اللاجئين.
ويرى الفسفوس، أن مخيم شعفاط الذي يربو عدد سكانه اليوم عن 40 ألف نسمة، وتقطنه أعداد لا بأس بها من حملة بطاقة الضفة الغربية بحكم التزاوج من مقدسيات، شكّل بالفعل نقطة ارتكاز هامة لمقاومة الاحتلال، وخرج منه العديد من الشهداء، وهذه ذريعة أعلنتها سلطات الاحتلال في تبريرها دخول الجيش الإسرائيلي للمخيم، على الرغم من أن القضية تتجاوز ذلك بكثير، علماً أن سكان المخيم مستعدون لأي سيناريوهات مستقبلية.
يُذكر أن مخيم شعفاط يتوسط اليوم تجمّعاً ضخماً من مستوطنات الاحتلال ومعسكرات الجيش، ووجوده كان على الدوام يشكّل حاجزاً بشرياً واسمنتياً يحول دون ربط هذه المستوطنات ببعضها بعضاً، ولذا كان القرار بعزله من خلال الجدار العنصري، في مقابل بناء شبكة طرق حديثة متطورة تجاوزت المخيم، وتم من خلالها ربط مستوطنات الجنوب والشمال والمركز ببعضها بعضاً، بينما تحوّل المخيم إلى ما يشبه الغيتو، وأيضاً إلى غابة من المباني الشاهقة تتجاوز في ارتفاعها العشرة طوابق، وتعلو كثيراً على جدار الفصل، ولم تستطع سلطات الاحتلال منع هذا النهوض العمراني الهائل داخل المخيم وفي محيطه، لتداعياته الأمنية والسكانية الخطيرة.
ولا يختلف المشهد في بلدة كفر عقب شمال القدس كثيراً عن واقع مخيم شعفاط، وعلى أكثر من صعيد، سواء واقعها الأمني الذي حوّلها إلى نقطة انطلاق للمقاومين والشبان المنتفضين، بالتزامن مع تفاقم أوضاع المواطنين هناك وجلّهم من حملة البطاقة المقدسية، بسبب تخلي بلدية الاحتلال عن سلطتها الخدماتية في هذه البلدة التي تضم الآن عشرات آلاف المقدسيين ومن مواطني الضفة الغربية المتزوجين من مقدسيات والذين قرروا السكن هناك أملاً في الحصول على موافقة لم شمل وإقامة من قبل وزارة داخلية الاحتلال، بينما توقفت الأخيرة عن النظر في آلاف الطلبات منذ عام 2002. وعلى الرغم من ذلك، ظل النزوح إلى هذه البلدة من قبل المقدسيين أنفسهم، فشقق السكن أقل سعراً بكثير عن مثيلاتها في القدس ذاتها، وكذلك الحال بالنسبة لإيجارات السكن المرتفعة جداً داخل حدود بلدية الاحتلال.
هذا الأمر يؤكده الناشط المقدسي محمود السلايمة من سكان البلدة، والذي انتقل للسكن وشراء شقة في كفر عقب، وانضم إليه كثيرون من الأزواج الشابة بفعل عروض البيع المغرية لمئات الشقق السكنية التي شيد منها الآلاف خلال السنوات القليلة الماضية. ويرى السلايمة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن واقع البلدة الحالي وعلى كل المستويات لن يغيره تواجد جيش الاحتلال وفرض سلطته العسكرية، علماً أن هذا التواجد قائم حالياً وبمقدور الجيش الدخول في أي وقت والتسلل إلى البلدة ومخيم قلنديا المجاور سواء عبر الحاجز العسكري أو عبر النزول إليهما من مستوطنة بسغوت المجاورة والمقامة على أراضي مدينة البيرة وسط الضفة. لكن ما يخشاه السلايمة، هو أن يكون لتكريس هذه الخطوة قانونياً، تداعيات مستقبلية على حق إقامة آلاف المقدسيين القاطنين في هذه البلدة بعد أن تتحوّل إلى الحكم العسكري الإداري لمنطقة الضفة الغربية، وهي المخاوف نفسها التي عبّر عنها سكان مخيم شعفاط، كما ورد على لسان ثائر الفسفوس.
خبير الأراضي والاستيطان خليل تفكجي، يرى في الدخول المتكرر لجيش الاحتلال إلى الأحياء المقدسية العربية، مقدمة لفصل تدريجي من دون قرارات معلنة، ودون ضجيج عن الفلسطينيين، وعودة للسيطرة المطلقة على أراضي الضفة الغربية، وهو ما بدا واضحاً من تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خلال افتتاحه شارعاً استيطانياً ضخماً "قلب إسرائيل"، حين قال بالحرف: "لقد عدنا إلى السامرة"، في إشارة واضحة إلى إسرائيل التوراتية الكبرى التي يتمسك بها غلاة المستوطنين المتطرفين بعد أن ينهوا وجود السلطة الفلسطينية، ويسحبوا من تحت أقدامها ما أعطي لها من أراضٍ، ويحولونها إلى مقدم خدمات لمواطنيها الفلسطينيين.
ويحذر تفكجي، في حديث لـ"العربي الجديد"، من تداعيات هذه الخطوات التي يقوم بها الإسرائيليون المدفوعون بالدعم الأميركي المطلق الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلانه القدس عاصمة لدولة الاحتلال. ويضيف: "ربما سيدفع المقدسيون الثمن الأكبر ديمغرافياً. فنحن نتحدث عن إخراج سكان من القدس، وعزل إحياء وإخراجها أيضاً من الحدود البلدية الحالية، وتحويلها إلى مناطق حكم عسكري مطلق، ويفقد هؤلاء السكان في وقت لاحق كل حقوقهم في الإقامة بما في ذلك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، وتتحول بطاقاتهم الشخصية الزرقاء التي يحملونها الآن إلى مجرد تصاريح للعبور والانتقال عبر الحواجز".
سياسياً، يرى تفكجي أنه بات من المستحيل أن تقوم دولة فلسطينية على الأرض في وقت يتم فيه إخراج القدس من أي مفاوضات مستقبلية، وحتى لو طُرحت على طاولة المفاوضات، فلن يجني الفلسطينيون شيئاً بفعل الواقع الاستيطاني الذي تمدد على الأرض، ليس في القدس وحدها بل في عموم الضفة الغربية التي عاد الاحتلال إلى قلبها، كما يُفهم من تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قرب قلقيلية أخيراً، إذ قال "نحن في قلب إسرائيل"، وتعهد للمستوطنين هناك بمزيد من الأمن، ومزيد من الخدمات التي يحتاجونها، وبمزيد من التوسع الاستيطاني وشبكات الطرق والأنفاق والجسور.
ومن المضحك، كما يقول عودة، أنه تم استعمال الأمن كذريعة لبناء الجدار مطلع 2002، واليوم يتم استعمال الفراغ الأمني الذي أوجده الجدار كذريعة لإعطاء الجيش الصلاحيات، مضيفاً: "يبدو أن الحكومة الإسرائيلية حسمت أمرها بالنسبة لهذه الأحياء، وهي أول خطوة عملية بعد بناء الجدار لفصلها عن القدس، علماً بأن لدى دولة الاحتلال على الدوام خططاً طويلة المدى، ومن الممكن أن تنفذ الخطوة المقبلة بعد سنوات عدة، لكن التوجه واضح الآن، والإشكالية أن السكان الفلسطينيين ليست لديهم إمكانية للعودة للقدس داخل الجدار، بالنظر إلى وجود ضائقة سكانية كبيرة، ومن الممكن أن يتم تطبيق السياسة نفسها مع أحياء أخرى غير مخيم شعفاط وكفر عقب مثل العيسوية وجبل المكبر بشكل أو بآخر"، معتبراً أن "مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى العودة من جديد لمركز القدس، على الرغم من صعوبة ذلك، علماً أن التقديرات الإسرائيلية تتحدث عن عودة 20 ألف مقدسي فقط".