جهود إنقاذ الحديدة: تفاؤل لفظي تكذبه معطيات الميدان

18 يونيو 2018
تمنع خطة غريفيث حدوث معركة في الحديدة(محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -
مرت 48 ساعة حاسمة للجهود الدبلوماسية المكثفة، في ما يمكن اعتباره الفرصة الأخيرة لترتيبات سياسية قد تجنب مدينة الحديدة الاستراتيجية اليمنية، معركة طاحنة، مع تواتر التسريبات حول مؤشرات اتفاق، يأمل إبرامه المبعوث الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، الموجود في صنعاء منذ يوم السبت، في الوقت الذي من المقرر فيه أن يقدم خطته إلى مجلس الأمن الدولي، في جلسة خاصة، اليوم الإثنين. غير أن الغموض لا يزال يكتنف مصير المفاوضات الساخنة التي يجريها لوقف العملية العسكرية في الحديدة، فيما تنحصر خياراته بين اثنين، قد يرفض الحوثيون واحداً والحكومة الآخر. وتحدث مصدر حكومي يمني وآخر في مكتب الأمم المتحدة في صنعاء، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، عن موافقة مبدئية من جماعة الحوثيين في اليمن على تسليم ميناء الحديدة إلى جهة محايدة، في أعقاب فرض القوات الحكومية حصاراً على المدينة. وأشارا إلى أن سلطات الحوثيين وافقت على تسليم الميناء التجاري، خلال مفاوضات مع غريفيث، الذي وصل إلى صنعاء صباح السبت الماضي.

غير أن مصدراً قيادياً في جماعة أنصار الله (الحوثيين)، تحدثت إليه "العربي الجديد"، سخر من الأنباء عن قبول الجماعة بتسليم ميناء الحديدة، بعد أن لمّح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، قبل نحو أسبوع إلى هذا الأمر، بالقول إنهم في الإمارات وفي اليمن يرحبون بجهود المبعوث الأممي الرامية إلى التسليم الآمن للحديدة إلى الحكومة اليمنية. وأشار إلى "أنباء سارة" من صنعاء. لكن القيادي في جماعة الحوثي، الذي رفض التعليق رسمياً، اكتفى بالسخرية من هذه التصريحات.

وتتضمن خطة الأمم المتحدة بشأن الحديدة، تسليم الميناء إلى إدارة من التكنوقراط، برئاسة مسؤول اقتصادي حكومي وعضوية عدد من رجال الأعمال يمثلون القطاع التجاري اليمني، على أن يتولى فريق من المنظمة الأممية الإشراف على تسيير العمل في الميناء وتسهيل دخول الشحنات التجارية والمساعدات الإغاثية. كما يشتمل هذا الحل التفاوضي على "ركائز أمنية واقتصادية وإنسانية تسمح باستغلال ميناء الحديدة لإدخال المواد الإنسانية والمنتجات التجارية، على أن تستعمل الإيرادات الجمركية والضريبية لتمويل الرواتب والخدمات الأساسية". وتمنع الخطة حدوث معركة مباشرة للسيطرة على ميناء ومدينة الحديدة، وتضمن استمرار تدفق الواردات عبر الميناء الذي يوصف بأنه شريان حياة لليمنيين. كما تتضمن الخطة آليات لتسليم رواتب موظفي الدولة في مناطق الحوثيين، والمتوقفة منذ 20 شهراً، وإعادة فتح مطار صنعاء أمام الرحلات التجارية بعد عام ونصف العام من التوقف.

وكانت صنعاء خلال الـ48 الساعة الماضية، محوراً للجهود الدبلوماسية، وتوجهت إليها الأنظار مع الزيارة التي بدأها غريفيث، أول من أمس، لإجراء مباحثات أُحيطت تفاصيلها بالتكتم الشديد، ووُصفت بأنها الفرصة الأخيرة، لأي نوع من التفاهمات السياسية والدبلوماسية التي قد تقود لتجنيب الحديدة معركة مجهولة العواقب، تحذر منها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، فيما باتت المعارك على أطرافها الجنوبية بشكل فعلي.


وعلى الرغم من المعطيات الميدانية والمنطقية التي تكاد تجعل من أي خيار سياسي، الأضعف حظاً، إن لم يكن من شبه المستحيل، في ظل التطورات الأخيرة وحالة عدم الثقة، إلا أنه وعلى نحو مفاجئ، توالت التصريحات التي تشير إلى إمكانية حصول اختراق في جدار الأزمة. فبالإضافة إلى تصريح قرقاش الذي تحدث عن "أنباء سارة" من صنعاء، خرج وزير الخارجية اليمني، خالد اليماني، بتصريح مماثل، وكتب على حسابه الشخصي، في موقع "تويتر"، إن "التسليم للشرعية وللوطن ليس استسلاماً"، وإن "خروج الحوثيين من الحديدة هو نصر للسلام والأمن في اليمن ومدخل لإنهاء مأساة اليمنيين التي بدأت بانقلاب 21 سبتمبر/أيلول 2014". وأضاف: "إن نجح المبعوث الخاص في تنفيذ مبادرة الحديدة ستتواصل الجهود لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2216، وحينها سيتسع الوطن لنا جميعاً"، وهو ما يشير إلى عودة الحديث عن "مبادرة" في الحديدة يمكن أن تجنب المدينة الحرب، بعد أن كان الوزير اليمني نفسه أعلن منذ أيام أن باب الدبلوماسية قد أغلق.

وفي ظل الغموض الذي يلف طبيعة الاختراق الذي حققه، أو بشّر به، المبعوث الأممي الموجود في صنعاء، إلا أن الأمر يكاد ينحصر في خيارين: الأول أن يقتنع الحوثيون بالانسحاب سلمياً من الحديدة وتسليمها للحكومة، مقابل ضمانات، قد تؤمن بطريقة أو بأخرى، سيطرة الحوثي في بقية المناطق، بما فيها العاصمة صنعاء، أو تمنع عن مدينة الحديدة كارثة دمار الحرب المحتملة على الأقل مقابل الانسحاب الآمن للمقاتلين الحوثيين في المدينة والذين تم تعزيز عديدهم من مختلف المحافظات خلال الأسابيع الأخيرة. وهذا الخيار قد يكون مقبولاً بالنسبة للطرف الحكومي وللتحالف، كما كان واضحاً في تصريحات قرقاش الذي تتولى بلاده الإشراف على العملية العسكرية في إطار التحالف.

أما الخيار الثاني، فيتمثل في موافقة الحوثيين على تسليم ميناء الحديدة، إلى طرف ثالث، وتحديداً الأمم المتحدة، بما يجنبه الاستهداف العسكري، وهو الخيار الذي كان مطروحاً في مبادرة المبعوث الأممي السابق إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد. ومن المتوقع أن يقبل الحوثيون به كأخف الضررين بالنسبة إليهم، وبما يمكنهم من الاستمرار بالسيطرة على الحديدة كمدينة. إلا أن هذا الخيار، بالنسبة للقوات الحكومية والتحالف، يمثل إجهاضاً مبكراً للنصر الكبير، الذي كانت تسعى إليه، بالسيطرة على آخر المنافذ الخاضعة للحوثيين نحو البحر. وبالتالي فإن السقف بات مرتفعاً بالنسبة للشرعية وتجاوز مسألة تسليم الميناء إلى طرف ثالث، مع احتمال القبول به، تحت الضغوط الدولية، على نحو لا يمنع معركة مؤجلة بالضرورة.

وفي كلتا الحالتين، إن تحقيق معادلة سياسية تنقذ الحديدة فعلياً من المواجهات، يبقى أمراً غاية في التعقيد ومن الصعب التكهن بنجاحه، في ظل التجارب اليمنية التي تشير إلى أن الحرب وحدها، الأوفر حظاً، وإن تمكنت الحلول من تهدئة وتيرة المعارك. فحتى خيار الانسحاب بالنسبة للحوثيين وتسليمهم المدينة مقابل ضمانات، أمر لا يزال محل شكوك في ظل حالة عدم الثقة، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية اليمني السابق، ومستشار الرئيس، عبدالملك المخلافي، الذي قال إن غريفيث يبدي تفاؤلاً في إمكانية الاتفاق مع الحوثيين بصورة عامة أو حول الحديدة بصورة خاصة. وأضاف: "لا يستند هذا التفاؤل إلى أي معطيات حقيقية، ولا يأخذ في الاعتبار التجارب السابقة مع الحوثي، وإنما يستند فقط إلى وعود غامضة وكلام عام من يعرف الحوثي يدرك أنه لا يزيد عن مناورة". وتابع المخلافي، في سلسلة تغريدات أمس الأحد: "لا يبدو حتى الآن أن هناك إمكانية حقيقية لسلام حقيقي مع الحوثي، رغم الترويج الإعلامي. وإلى جانب اتفاق واضح حول الانسحاب من الحديدة، يجب أن يكون هناك اتفاق شامل". وتابع أن "الاتفاق المطلوب يجب أن يشمل انسحاباً فورياً وكاملاً وغير مشروط من الحديدة، والتزاماً واضحاً ومعلناً بالاستعداد لتنفيذ القرار الأممي 2216 والانسحاب من المدن ومؤسسات الدولة وتسليم السلاح قبل الذهاب لمشاورات لوضع التفاصيل وتوقيع الاتفاق".

الجدير بالذكر أن جهود المبعوث الأممي جاءت في الأيام والساعات الأخيرة الحرجة، قبل اجتماع من المقرر أن يعقده مجلس الأمن الدولي اليوم  الإثنين، ويقدم خلال غريفيث خطته التي يعدها منذ ما يقرب شهرين، لعملية سلام في اليمن، ما لم يتم تأجيل الجلسة، لاعتبارات متعلقة بالتطورات الأخيرة، ولوجود المبعوث الأممي في المنطقة، ضمن الجهود الطارئة المتعلقة بالحديدة خصوصاً أن تطورات الحديدة سيكون لها تأثير محوري في أي خطة سلام أو عملية سياسية مقبلة. وما لم تستوعب الخطة المتغيرات الأخيرة، على نحو يلقى الحد الأدنى من القبول لدى الأطراف المعنية، فإن المعارك قد تتواصل في كل الأحوال، خصوصاً بعد أن وصلت المعارك إلى أطراف مدينة الحديدة، ومعها يرتفع سقف الحكومة والتحالف في متطلبات أي حل. ميدانياً، استمرت المعارك في المربع ذاته الممتد من محيط مطار الحديدة الدولي إلى الخط الساحلي، حيث تقف القوات الحكومية في أطراف المدينة، بالإضافة إلى هجمات نفذها الحوثيون، لقطع طريق التعزيزات  في مديرية التحيتا، وسط خسائر في صفوف الجانبين، إلا أن المعارك لا تزال تنتظر نتائج المباحثات التي يجريها المبعوث الأممي، والتي ستخرج إلى العلن الإثنين، على الأرجح.