وتشير هذه الأرقام إلى وضع السلطات الجزائرية ملف الأمن والدفاع في صدارة أولوياتها، بالنظر إلى استمرار حالة التوتر الإقليمي في ليبيا، وخصوصاً في مناطقها الجنوبية القريبة من الجزائر، وعودة التوتر والنشاط اللافت للمجموعات الإرهابية في مناطق شمال مالي والنيجر، وسرعة انتقال التوترات من منطقة إلى أخرى في منطقة الساحل. وبحسب العقيد المتقاعد في الجيش، رمضان حملات، إنّ "الجيش الاحترافي الذي باتت تمتلكه الجزائر وعامل الجغرافيا أيضاً، فرضا على القيادة الجزائرية توجيه جزء من مقدّراتها لتحديث هذا الجيش وتطوير قدراته من جهة، وتأمين الحدود والاستعداد لأي توترات مستقبلية قد تفرض نفسها على الجزائر من جهة ثانية"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "عقيدة الجيش الجزائري الدفاعية لا تضع التطور التسليحي للجيش ضدّ أيّ طرف، ولا يمكن إدراج ذلك ضمن أي سياق من سياقات التسلّح غير المدروس".
وبالنظر إلى تطوّر موازنة الدفاع في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، يظهر أنّ هذه الموازنة قفزت إلى مستويات قياسية وبشكل متسارع منذ عام 2009، إذ كانت في عام 2008 بحدود 2.5 مليار دولار أميركي، لكنها قفزت إلى أكثر من الضعف في العام التالي 2009 لتصل إلى 6.5 مليارات دولار أميركي، وبزيادة طفيفة عام 2010. وساعد ارتفاع مداخيل النفط ووجود أريحية مالية للبلاد في رفع هذه الموازنة السنوية للدفاع إلى 9.7 مليارات دولار أميركي في عام 2012، ثمّ إلى 12 مليار دولار أميركي في موازنة العام 2014. لكنّ موازنة الدفاع سجّلت مستوى غير مسبوق عام 2015، إذ بلغت 13 مليار دولار أميركي، وانفردت وزارة الدفاع بنسبة 11 في المائة من إجمالي الموازنة العامة للجزائر في تلك السنة. لكنّ اضطراب أسعار النفط في الأسواق الدولية لاحقاً وتراجع عائدات البلاد المالية، فرضا على الحكومة خفض موازنة الدفاع إلى حدود تسعة مليارات دولار أميركي في عامَي 2016 و2017، وإلى 9.3 مليارات دولار أميركي للسنة الحالية 2018.
لكن الضابط المتقاعد في الجيش عبد المجيد شريف، يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ هناك استقراراً في موازنة الجيش خلال السنوات الخمس الأخيرة، رغم بعض التفاوت في الأرقام (يرتبط بمستوى صرف الدينار الجزائري أمام الدولار). أمّا برأي الخبير في الشؤون العسكرية، أكرم خريف، والذي يدير موقعاً متخصصاً في الشؤون العسكرية والتسليح، فإنّ هذه الموازنات التي أنفقت على التسليح وتحديث الجيش وتسيير الشؤون العسكرية خلال السنوات الأخيرة، لا تبدو كبيرة مقارنة بمجموعة من المعطيات التقنية والسياسية. ويقول خريف في حديث مع "العربي الجديد"، إنّه "يجب أن نعلم أنّ الجيش الجزائري كان يعاني من ثغرة عملاقة بالتسليح في الفترة بين عامي 1990 و2000، وهي الفترة التي فرضت فيها الدول الغربية حظراً على بيع السلاح للجزائر بسبب تطورات الوضع الداخلي، وخلال تلك الفترة فُقد عدد كبير من العتاد وتراجع تعداد الجيش"، مشيراً إلى أنّ "موازنات الجيش تحسب أيضاً بمعدّل عمر الأسلحة البالغ 30 سنة، وإذا أخذنا في الاعتبار هذا التفصيل، فإنّنا نكون أمام موازنة عادية". ويضيف خريف: "أعتقد أنها موازنة ظرفية تسمح للجيش باستعادة التوازن في المجال اللوجيستي، وأتوقع أن تبدأ موازنة الجيش بالتراجع بدءاً من عام 2020".
وإضافة إلى موازنة تسيير الجيش وتعداده البشري الذي يتجاوز نصف مليون جندي ومرتباتهم والإنفاق اللوجيستي، فانّ موازنة الجيش والتسليح استهلكت خلال السنوات الأخيرة أكثر من 50 مليار دولار أميركي، لتمويل صفقات أسلحة ومعدات وتحديث ترسانة الجيش؛ إذ حصلت الجزائر على غواصات ومنظومات صواريخ متطورة وطائرات حديثة وأنظمة مراقبة، ظهر بعضها للمرة الأولى في المناورات العسكرية الضخمة التي نفّذها الجيش خلال الأشهر القليلة الماضية في منطقة وهران غرب الجزائر والجلفة وسط البلاد وبشار جنوب البلاد، وهي مناورات تعمّد الجيش استعراض قوته وترسانته فيها لحسابات داخلية وإقليمية أيضاً، خصوصاً أنّها تزامنت مع سلسلة تغييرات مسّت قيادات من الصف الأول في الجيش.
وثمّة مسألة تبدو في غاية الأهمية، برزت في الفترة الأخيرة، وتتعلّق بتجنّب نواب البرلمان الجزائري مناقشة موازنة الجيش، إذ يبدو أنّ هناك حالة من التوافق السياسي بين مجمل الكتل النيابية والقوى السياسية على استبعاد موازنات الجيش والإنفاق العسكري من النقاش. وتتحاشى الكتل أي مطالب بإجراء مراقبة ومحاسبة مالية لأوجه صرف موازنة الجيش كمؤسسة مثل باقي المؤسسات الجمهورية والحكومية، لكن هذه المسألة طرحت بوضوح في الفترة الأخيرة، بعد توقيف القضاء العسكري خمسةً من كبار ضباط وقادة الجيش بتهم الفساد والثراء غير المشروع والتكسّب من النفوذ، إذ دفع ذلك أصواتاً سياسية إلى البدء بالمطالبة بوضع موازنة الجيش تحت الرقابة كباقي الموازنات الحكومية.