تركيا: دروس انقلاب الساعات الخمس والمهام الداخلية الطارئة

أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
17 يوليو 2016
6D9CA619-6F0E-499B-8D9F-4B9D942B85F5
+ الخط -
وحدهم كارِهو الممارسة الديمقراطية (على نواقصها) كانوا متحمسين، ليل الجمعة ــ فجر السبت، لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا. وما أكثر هؤلاء بحسب ما ظهر جماعياً وفردياً في المواقف والآراء (الشخصية لمواطنين وسياسيين وإعلاميين)، وفي شكل التغطية الصحافية التي اتخذت من حجة "الموضوعية" ستاراً لحماسة غريبة لمصلحة الانقلاب لدى وسائل إعلام غربية وعربية، بما أن الموضوعية تعني الحياد، وكأن الحياد مسموح إزاء جريمة ترتكب مباشرة على الهواء. ومع استفاقة تركيا والعالم على إحباط المحاولة، وإنْ بشكل غير كامل بعد، أصبح بالإمكان إيراد مجموعة من الملاحظات والدروس والخلاصات، خصوصاً حيال الوضع التركي الداخلي والأثر الخارجي لما حصل، وما كاد أن يحصل لو انتصر الانقلابيون في بلد الانقلابات تاريخياً.

أثبتت أحداث الليل التركي الطويل أن مقولة "السلطة للشعب" ليست مجرد إنشاء طوباوي، بل يمكن أن تكون حقيقة ترجمها مئات الآلاف من الأتراك الذين نزلوا بالفعل إلى الشوارع بسلمية مستعدّة للتحوُّل إلى سلوك عنفي بطبيعة الحال، وهو عامل تفترض قراءات عديدة أنه أدّى الدور المركزي لتحرّك قطاعات واسعة من المؤسسات العسكرية التركية الرافضة للانقلاب، بهدف وضع حدّ للسيناريو الأسود.

صحيح أن تحرك الشعوب في مثل هذه الحالات ليس كافياً لوحده، على ما تفيد تجارب عديدة، عربية (آخرها مصر) وغربية، وأفريقية، وأميركية لاتينية، إلا أنه يبقى شرطاً لا بد منه لكي تتحقق بعده ظروف وشروط أخرى، داخلية وخارجية، مثل مواجهة الانقلاب عسكرياً من قبل رافضيه من داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية من مخابرات وشرطة وجيش.

تركيا دولة حياتها السياسية مزيج من ملامح عالم ثالثية (الشخصانية والطائفية والانقسامات العرقية)، والمعايير الحديثة للتجربة الديمقراطية، (أحزاب، وانتخابات، ومجتمع مدني، وانقسامات طبقية...). صحيح أن الانقسامات السياسية العامودية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، إلا أن مواقف الأحزاب السياسية المعارضة الثلاثة، رفضاً لمحاولة الانقلاب، جاءت لتضيف نقطة إيجابية جداً على مستوى الحياة العامة في هذا البلد. كل من حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك)، والحركة القومية التركية (يمين متطرف قومي ذو ميول إسلامية)، والشعوب الديمقراطي (الأكراد) أجمع، منذ الساعات الأولى لليلة التركية السوداء، على رفض محاولة الانقلاب، وترجم ذلك برلمانياً وإعلامياً.

حتى إن المؤسسات الإعلامية المحسوبة على إمبراطورية دوغان (المعارضة العلمانية الأقرب إلى الشعب الجمهوري) تعرضت لأعنف حملة من الانقلابيين وإقفال للهواء واعتداءات ومنع البث المباشر. كما أن قطاعات واسعة من جماهير هذه الأحزاب الثلاثة نزلت إلى الشوارع وشاركت بالفعل في التصدي للجيش، بدءاً من الهتاف والتلويح بالعلم التركي، وصولاً إلى رمي العسكر الانقلابي بالحجارة والاستلقاء أمام الدبابات لإعاقة حركتها.

ليس مفاجئاً موقف وسلوك الأحزاب الثلاثة وجماهيرها. فالانقلابات الأربعة الماضية في تركيا (1960، 1971، 1980، 1997 أو الانقلاب الأبيض)، لم توفر أي كيان سياسي، لا بل كانت انقلابات ضد السياسة عموماً، وضد الأحزاب وضد الديمقراطية خصوصاً، بحجة الشيوعية حيناً، وبذريعة الأكراد والإسلاميين أحياناً. وربما يكون الجندي المجهول في إحباط الانقلاب، كتلة غير الحزبيين الذين تحركوا بصفتهم مجرد مواطنين، لا يريدون حكم العسكر المشؤوم، وهم يعرفون، ممارسةً بالنسبة لكبار السن، أو قراءة واطلاعاً للأجيال الفتية، أن الانقلابات التركية الأربعة منذ تأسيس الجمهورية كانت كابوساً راح ضحيته مئات آلاف القتلى، والمعوّقين، والمختفين قسراً، وحصيلة لا تقدر بثمن من الخسائر المعنوية، والاقتصادية، والحياتية، والاجتماعية عموماً.

أغلب الظن أن عدداً كبيراً من الذين نزلوا إلى الشوارع ليسوا بالضرورة من محبي رجب طيب أردوغان وحزبه وحكومته، لكنهم يفضلون خصماً ينازلهم في الانتخابات، يشتمونه ويشتمهم، يعارضونه ويرمونه بالبيض من دون أن يطلق النار عليهم أو يدهسهم بجزمة عسكرية دموية. في هذه الناحية، برز أن في تركيا بالفعل مجتمعاً سياسياً مدنياً لديه من الوعي ما أهّله لفهم أن المكتسبات الديمقراطية التي تحققت في السنوات الـ14 الماضية وقبلها حتى، وإنْ كانت نسبية جداً، لكن ليس وارداً التخلي عنها بذريعة أن جزءاً من الأتراك غير راضين عن حكومتهم ورئيس جمهوريتهم وسياساته الداخلية والخارجية.

دروس ما حصل في تركيا كثيرة، تبدأ من داخل الجيش وبقية المؤسسات الأمنية. بدا واضحاً أن ما زرعه أردوغان لناحية التعديلات الدستورية والقانونية التي من شأنها الحدّ من سلطة الجيش اللامحدودة سابقاً، بموجب الدستور الانقلابي الموروث من عام 1982، أعطت نتائجها بالفعل. يمكن توجيه مجموعة كبيرة جداً من الانتقادات ضد أردوغان، لكن كلها لا تنفي عنه صفة "الذكاء السياسي". ذكاء جعله يفهم جيداً تاريخ جيشه الانقلابي بالفطرة، فاشتغلت واقعيته السياسية منذ تسلم حزب السلطة عام 2002، ونسج علاقات ممتازة بعدد من الجنرالات والوحدات في الجيش والمخابرات والشرطة والقوات الخاصة، بشكل صاروا رصيداً مهماً بالنسبة إليه شخصياً أحياناً، ما سمح له بـ"إعطائهم ظهره" والاتكال عليهم في إحباط مؤامرات كالتي حصلت ليل الجمعة ــ السبت.

كل ذلك بدا غير كافٍ بالمطلق، وهذا أمر مفهوم نظراً للتاريخ الانقلابي للجيش التركي، ولنظرته إلى نفسه، وإلى دوره كبانٍ للجمهورية، وصاحب الولاية عليها وعلى عموم الشعب التركي القاصر بنظر الأيديولوجية التي صنع بموجبها أتاتورك جمهوريته وجيشه. الجيش التركي، صاحب المليون ضابط وجندي في الخدمة وفي الاحتياط، لن يتمكن لا أردوغان ولا غيره من ضبطه بالكامل يوماً، في المدى المنظور على الأقل، لكن إنجاز أردوغان ورفاقه أنهم بدأوا رحلة الألف ميل في قضايا إرغينيكون و"المطرقة" والتعديلات الدستورية والقانونية، لتثبيت قاعدة أن "الجيش في الثكنات فقط". اليوم، وبعد فشل المحاولة، يرجح أن تشهد إعادة هيكلة القوات الأمنية عموماً فصلاً جذرياً من شأنه أن يجعل محاولات الانقلاب المستقبلية أصعب وأكثر تعقيداً وأقل ترجيحاً.

لكن لتركيا تاريخاً مع الدم، لا يجب أن يُستعاد في إطار انتقامي، وهو أمر أغلب الظن أن حكام أنقرة يدركونه تمام الإدراك، فلا إعادة حكم الإعدام للاقتصاص من الانقلابيين ستكون قراراً حكيماً، ولا استغلال أجواء المحاسبة للحدّ من الحريات الخاصة والعامة وضرب ممارسات ديمقراطية بحجة حالة الطوارئ سيعود بالنفع على إنجاز الشعب التركي. ومَن يعرف التاريخ الحديث لتركيا، يدرك تماماً أنها مقبرة الأحزاب حين تتخلى عن خطابها وتعدّل برامجها. يدرك أردوغان لا شك أن هذه القاعدة لا تستثنيه، بالتالي فإنّ النتيجة المنطقية لهذا الإدراك لا بد أن تترجم على شاكلة توسيع نطاق الحريات لا الحدّ منه، وهو ما لا يتناقض مع الإجراءات الضرورية لمنع تكرار محاولة الانقلاب.

يقف أردوغان، بعد أن تنتهي المحاولة الانقلابية المستمرة في جيوب متفرقة، أمام تحدٍّ كبير: الجيش منقسم. على الأقل، سقط عشرات الجنود والضباط ورجال الأمن بنيران جنود وضباط ورجال أمن آخرين. من هنا، أمام الرجل عمل كثير لرأب الصدع في ثاني أكبر جيش برّي في حلف شمال الأطلسي (بعد الجيش الأميركي)، لأن عديد الجيش التركي ومصالحه وحجمه وإمبراطوراته الاقتصادية تجعله عُرضة لحرب أهلية داخل المؤسسة العسكرية نفسها. وضع مماثل ينطبق على أجهزة المخابرات (المحسوبة على أردوغان وصديقه مدير الجهاز حقان فيدان)، والشرطة (المقسومة في ولاءاتها بين الانقلابيين والحكومة). هنا، يصعب أن يخطر في بال أردوغان مثلاً أن يقتدي بالتجربة الإيرانية ما بعد الثورة، أي أن ينشئ "مليشيا رسمية" موازية للأجهزة العسكرية، على غرار "الباسيج" والحرس الثوري، فهذا مقتل للدولة ولفكرتها ولأي أمل بديمقراطية تركية بشروط أفضل.

في هذا الشرق، كان لا بد لمحاولة الانقلاب أن تفشل في تركيا، فهناك ما يكفي من خراب لدرجة أنه يستحيل أن تتمدد بقعة الزيت أكثر. لكن بدا أن كثيرين غير مقتنعين بهذه القاعدة. مَن تابع تعاطي طيف واسع من الإعلام العربي والغربي مع محاولة الانقلاب، يُصدَم بأنه في هذا العالم، لا يزال هناك عدد كبير من البشر يمكنهم أن يدافعوا عن انقلاب دموي. وحدها الأيام ستكون كفيلة بإظهار مدى جدية الشكوك التي تراود كثيرين إزاء مواقف دولية كثيرة صنّفها البعض في خانة التواطؤ بأسوأ الحالات، أو عدم ممانعة نجاح الانقلاب بأحسنها. الموقف الأميركي عيّنة عن ترقّب كان لا يعارض إطاحة الديمقراطية على يد جنرالات، قبل أن يتحوّل الخطاب، ويستفيق الرئيس الأميركي باراك أوباما من سباته، ويعلن دعم "الحكومة المنتخبة ديمقراطياً"، بعدما كان رئيس دبلوماسيته جون كيري يقتصر همّه على "الاستقرار في تركيا"، إذ تحصل "انتفاضة" بحسب مصطلحات بيانَين للسفارة الأميركية في أنقرة تحذّر فيهما رعاياها أمنياً.

الحماسة عند بعض العرب الحاكمين بفضل الانقلابات، مصر تحديداً وسورية ودول أخرى، أكثر من مفهومة. فتركيا كانت ولا تزال عقبة كبيرة أمام مشروع الثورات المضادة أو الانقلابات على الثورات العربية. وحده حكم عسكري شبيه بما كان سائداً أيام الانقلابات كان كفيلاً بتسهيل مهام ومشاريع كثيرة تقف تركيا عائقاً أمامها، وهو ما لا يعجب لا مصر ولا سورية ــ بشار الأسد، ولا النظامين في روسيا وإسرائيل. أما الخطر الأكبر، والذي ظهر بشكل رخيص في جوقة حماسة شعبية في دول عربية عديدة إزاء محاولة الانقلاب، فهي لا تعني سوى تراجع في الوعي، واستسلام لحقد أعمى تجاه إرادة الشعوب وخياراتها حين تكون غير ملائمة لأهواء البعض، فيصبح الإسلامي غير مستحق للفوز بأي انتخابات، ويصير العسكري "العلماني"، وإنْ كان مجرماً فاسداً، صاحب فضل إنقاذ البشرية من الإسلاميين، وكأن "العلمانية" وصفة أخلاقية كافية بحد ذاتها لتحمل بذور تعدد وديمقراطية وحريات.

ما بعد محاولة الانقلاب (حين ينتهي بالكامل) لن يكون كما كانت عليه الأحوال قبله في علاقات تركيا بعدد من عواصم العالم. واشنطن ستكون أكثر فأكثر عرضة لضغط تركي حيال قضية الداعية المثير للجدل والريبة معاً، فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا منذ 1998، بغض النظر عن صحة الاتهام الرسمي الموجّه للرجل ولحركته و"كيانه الموازي" بالوقوف خلف انقلاب الساعات الخمس. كذلك سيكون التعاطي الروسي الإسرائيلي الفاتر في الدفاع عن الديمقراطية التركية في اللحظات الحرجة، حاسماً في عدم تطور المصالحة الأخيرة مع أنقرة إلى "غرام" وعودة للتحالف، لحسن حظ شعوب عربية عديدة. تقدير مشابه يطاول الموقف الإيراني الداعم "للحكومة المنتخبة"، والذي لم يصدر إلا بعد ظهر أمس السبت، أي بعد تأكد فشل محاولة الانقلاب.

تركيا التي نعرفها صارت ملجأً لهاربين كثيرين من المضطهدين العرب بفعل انقلابات بلدانهم وجزّاريها. لا يمكن لتركيا التي تستضيف ملايين السوريين، والمصريين، والعراقيين، والليبيين، والفلسطينيين أن تغرق وتُغرق معها ما تبقّى من أمل عربي يجد في الانفتاح التركي سنداً له.

ذات صلة

الصورة
من مجلس العزاء بالشهيد يحيى السنوار في إدلب (العربي الجديد)

سياسة

أقيم في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي وفي مدينة إدلب، شمال غربي سورية، مجلسا عزاء لرئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي استشهد الأربعاء الماضي.
الصورة
غارات روسية على ريف إدلب شمال غرب سورية (منصة إكس)

سياسة

 قُتل مدني وأصيب 8 آخرون مساء اليوم الثلاثاء جراء قصف مدفعي من مناطق سيطرة قوات النظام السوري استهدف مدينة الأتارب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة
الصورة
قبور الموتى للبيع في سورية / 6 فبراير 2024 (Getty)

اقتصاد

تزداد أعباء معيشة السوريين بواقع ارتفاع الأسعار الذي زاد عن 30% خلال الشهر الأخير، حتى أن بعض السوريين لجأوا لبيع قبور ذويهم المتوارثة ليدفنوا فيها.
الصورة
قوات روسية في درعا البلد، 2021 (سام حريري/فرانس برس)

سياسة

لا حلّ للأزمة السورية بعد تسع سنوات من عمر التدخل الروسي في سورية الذي بدأ في 2015، وقد تكون نقطة الضعف الأكبر لموسكو في هذا البلد.