دخلت انتفاضة الأقصى الثانية التي اندلعت قبل 16 عاماً، مرحلة جديدة في المقاومة الفلسطينية، تشكلت خلالها الأجنحة العسكرية المسلّحة التابعة للأحزاب والحركات الوطنية والإسلامية الفلسطينية، ما جعل الكثير من الشبان الفلسطينيين الحريصين على وطنهم، أن يتنظموا ويتجهّزوا لمقاومة الاحتلال بأسلوبهم الجديد والفعال.
وقبل الإعلان عن اندلاع الانتفاضة، في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول، كانت الأراضي الفلسطينية تشهد فترة ركود، وهدوء بعدما قدِمت السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، عقب توقيع اتفاق أوسلو، استغله الاحتلال الإسرائيلي، بالامتداد الإستيطاني، وسرقة الأراضي من الفلسطينيين.
إلا أن عيوناً فلسطينية لم تكن تنام عن سرقة الأرض، وسرطان الاستيطان، فكان شاب يُدعى نصر الدين عصيدة، ومعه رفيقان آخران، يخططان لتنفيذ عملية فدائية، وهو ما حدث عام 1998 داخل مستوطنة يتسهار، المقامة على أراضي الفلسطينيين جنوبي مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، حيث قتل الفدائيون الثلاثة فيها حارسي المستوطنة، واستولوا على أسلحتهم ومن ثم انسحبوا.
نصر الدين عصيدة، وهو ابن قرية تل جنوب غرب مدينة نابلس، تربى وترعرع في كنف عائلة مكافحة، مكوّنة من تسعة أخوة وأخوات، تكدّ وتعمل من أجل توفير لقمة العيش. كان الوالد يعمل في البناء، بمساعدة أبنائه، وكان نصر الدين من الأبناء المميزين والنشيطين في عمله، كما يصفه شقيقه عاصم، مشيراً إلى أنّه اضطر لترك مدرسته عندما كان عمره 13 عاماً، ليقف بجانب والده ويعينه على عمله.
ويقول عاصم، الشقيق الأصغر للشهيد لـ"العربي الجديد"، "تحمّل نصر عبء العائلة منذ صغره، فقد كانت العائلة في ذاك الوقت فقيرة ولا يوجد أي دخل سوى العمل في البناء، وبقي يكافح مع والدي إلى أن أصبح مطارداً من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد تنفيذه عملية يتسهار".
بعدما نفذ نصر العملية، ولم تعرف سلطات الاحتلال منفذيها، منعت التجوال في كافة القرى المحيطة بالمستوطنة، واعتقلت أعداداً كبيرة من الشبان لتحقق معهم، وأجرت تحقيقات ميدانية مع أهالي القرى في ساحات المدارس، واستمرّت فترة حصار المنطقة، إلى أن عُرف منفذو العملية وهم نصر عصيدة، ونزار رمضان، وخوليد رمضان.
اعتقل الثلاثة بعدها في سجون السلطة الفلسطينية، لثلاث سنوات، إلى أن اندلعت انتفاضة الأقصى، وقصفت طائرات الاحتلال سجن الجنيد المعتقل فيه الشبان الثلاثة، ليتمكنوا من الهرب، ويعودوا مرة أخرى لمقاومة الاحتلال والمشاركة في الانتفاضة من جديد.
ويوضح شقيق نصر الدين، أنّ الأخير اعتاد على حياة البر منذ صغره، فقد كان يظل في جبال القرية، وأراضيها، يفتش عن مغاراتها ومخابئها، ولم يكن ينام في منزل العائلة، بل كان يعيش في منزل قديم لعائلتهم في القرية، حتى أنه داخل السجن، كان يضع الفرش إلى جانب السرير وينام عليه ليعوّد نفسه على حياة البر، كأنه يعد لملاحقة الاحتلال له.
خطط ونفذ الشهيد برفقة خلية تابعة لـ"كتائب القسام" التابعة لحركة "المقاومة الإسلامية" (حماس) عمليات نوعية عدّة، قتل فيها عدداً لا بأس به من جنود الاحتلال، كانت منها عمليتا عمنوئيل، وهي مستوطنة جاثمة على أراضي الفلسطينيين شرقي مدينة قلقيلية شمالاً، حيث نفذت فيها عمليتين خلال سبعة شهور، قُتل فيها أكثر من 15 جندياً، وأُصيب عدد آخر.
بقي الشهيد نصر مطارداً من سلطات الاحتلال، التي حاصرت قريته، والقرى المجاورة والمشتبه بأن يكون قريباً منها. نجا من محاولات اغتيال واعتقال عدة، فقد كان سريع البديهة خفيف الحركة. اعتقلت قوات الاحتلال والده، وأزواج أخواته وهدمت منزله بهدف الضغط ليسلم نفسه، لكنه رفض وظل يقاوم.
استشهد نصر في 18 مارس/آذار عام 2003، حين حاصرت قوات الاحتلال الشهيد في منطقة قريبة من قرى حجة والفندق ما بين مدينتي نابلس وقلقيلية، واستمر في المقاومة إلى أن استشهد، واحتجزت سلطات الاحتلال جثمان الشهيد في مقابر الأرقام لتسع سنوات، لتسلمه لعائلته مطلع يونيو/حزيران 2012 وقد ووري الثرى في قريته.
كان الشهيد عصيّاً شديداً على الأعداء، رحيماً بأهله ومحباً لأبناء قريته، يقول شقيقه "إنّ أخي كان له شبكة علاقات واسعة جداً مع أهل القرية، لم يكن متعصباً لحزبه، كان منفتحاً على جميع أبناء القرية، شاركهم ضرب الحجارة على جنود الاحتلال في الانتفاضة الأولى، وكتب معهم الشعارات على الجدران، وكان الجميع يحبه، كونه مساعداً للجميع، ولا يتأخر في تلبية النداء".