مع حلول منتصف ليل أمس الجمعة، طوت رئاسة دونالد ترامب عامها الأول. في نفس اللحظة، أغلقت الدوائر والإدارات الفيدرالية الأميركية أبوابها رسمياً. تزامنٌ غير معروف في تاريخ الرئاسة، وسابقة حافلة بالمعاني والمدلولات. فهي ليست محض صدفة، بقدر ما هي عملية تحصيل حاصل لتدهور الممارسة السياسية، واحتدام الصراع بين أطرافها، ونتيجة لتخبط إدارة ترامب، وفقدانها للحد الأدنى من التماسك ووضوح الرؤيا.
الإغلاق حصل بحكم القانون. مع نهاية يوم أمس، انتهت صلاحية الصرف من الشرائح المالية التي أقرّها الكونغرس على دفعات، منذ بداية السنة المالية، في أول أكتوبر/تشرين الأول الماضي. والكونغرس اعتمد هذه الطريقة للصرف، بعد عجزه عن تمرير كافة بنود الموازنة السنوية العامة (مجلس الشيوخ يحتاج إلى أغلبية 60 صوتاً لا يملكها الحزب الجمهوري)، بسبب عمق الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين، حول حجم الإنفاق العام. وهي حالة ليست طارئة، وقد أدت إلى وقف العمل الحكومي أكثر من مرة: سنة 1978 في عهد الرئيس جيمي كارتر، تسبّبت في الإغلاق لمدة 17 يوماً. وحدثت سنة 1995 في عهد الرئيس بيل كلينتون مرتين، 5 أيام و21 يوماً. ومؤخراً في 2013 في عهد الرئيس باراك أوباما ولمدة 16 يوماً.
لكن العقدة هذه المرة ليست فقط مالية. هي تعبير عن أزمة "وضع سياسي مكسور"، كما يصفه المراقبون.
فلأول مرة تحدث مثل هذه الأزمة، في السنة الأولى من ولاية أي رئيس. كما أنّها المرة الأولى التي يحصل فيها إغلاق في ظل سيطرة حزب واحد (الجمهوري) على البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب.
ما يحدث هو مؤشر على "عجز" الحزب الجمهوري ورئيسه، عن تسيير دفة الحكم. وهي حالة تعكس عمق المأزق السياسي، لاسيما في صفوف الحزب، كما في العلاقة الملتبسة بينه وبين ترامب. رئاسته سرّعت وفاقمت عملية التصدّع في الداخل، وزادت في تغييب الوسطية السياسية، ليحلّ مكانها التشبّث بالرأي والمشاكسة.
موجة اليمين الشعبوي التي ركبها ترامب، زادت من الانسدادات والتوترات. وفي الخارج، قادت إلى شبه انفلات، استقوى على الحلقات الضعيفة، وكاد أن يورّط أميركا في مواجهات كبيرة ومكلفة، من دون حسبان للعواقب.
فخلافاً لغالبية الدعوات والمناشدات والتحذيرات، أقدم ترامب على خطوات جائرة، مثل إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وقطع جزء من المعونة مقدّمة لقطعها بالكامل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا". وكاد أن يطيح بالاتفاق النووي الإيراني، ويفجّر حرباً مع كوريا الشمالية، لولا الكوابح والضغوط المانعة، فضلاً عن الاشتباكات التي افتعلها مع العديد من الدول، وحتى الحليفة منها، ما عدا نظيره الروسي.
على هذه الخلفية، جاء إغلاق الدوائر والإدارات الحكومية، ليكشف عن الفشل في امتحان السنة الأولى لترامب. سيّد "فنّ عقد الصفقات"، لم يتمكّن من إنجاز صفقة الموازنة، رغم سيطرة حزبه على الكونغرس. كشف هذا العجز عن "غياب القيادة" كما قال المؤلف والمؤرّخ جون ميتشم. غيابها ليس فقط في البيت الأبيض، بل أيضاً في الكونغرس الذي سجّل، أمس الجمعة، درجة إضافية من الهبوط، وإن كان ليس مدوياً كهبوط الرئيس، الذي يراوح رصيد شعبيته في الداخل بين 38 و39%، والذي نزلت في أيام عامه الأول النظرة لأميركا ودورها القيادي في العالم إلى 30%، بعد الصين 31%، حسب استطلاع أخير.
وتسبب الإغلاق، الذي بدأ اليوم السبت، في أن حوالي 800 ألف موظف في الدوائر والإدارات الفيدرالية، يتوقف عملهم ورواتبهم، فيما يواصل العاملون دوامهم في دوائر حساسة، مثل أجهزة الأمن والطيران المدني والقوات العسكرية وغيرها. وقد تستمر هذه الحال لمدة يوم، إذا ما تم التوافق، غداً الأحد، على العودة إلى خيار التمويل المؤقت لفترة أسبوعين أو أكثر. وقد يمتد لعدة أيام وأسابيع.
في أية حال، الضرر السياسي وقع، وسُجّل الإغلاق كنكسة لترامب. هذا فضلاً عن الضرر الاقتصادي لو طال أمد الأزمة، التي تصل كلفتها إلى 6 مليارات دولار في الأسبوع.
مع ذلك، يغادر ترامب إلى ولاية فلوريدا، ليحتفل بنهاية عامه الأول في الرئاسة، وتدشين عامه الثاني، بإقامة حفل عشاء باذخ، مساء اليوم السبت، في منتجعه الفاخر "مارالاغو"، يتراوح ثمن تذكرة حضوره بين مائة ومائتين وخمسين ألف دولار.