تتكثف الجهود الإقليمية والدولية من أجل حسم مصير محافظة إدلب ومحيطها، والذي لا يزال معلقاً باتفاقات وتفاهمات تركية روسية، أثبتت التطورات الأخيرة أنه لا يعوّل عليها في تهدئة دائمة بانتظار حل سياسي شامل للقضية السورية. وأثبت اتفاق سوتشي، المبرم بين أنقرة وموسكو في سبتمبر/ أيلول الماضي، عدم جدواه، حيث تجاوزه الروس أنفسهم، متهمين الأتراك بعدم تنفيذ كل بنوده، خصوصاً لجهة القضاء على "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) وفتح الطرق الدولية.
في المقابل تعتبر تركيا إدلب جزءاً من أمنها القومي، مشيرة إلى أنها لن تتهاون على الإطلاق في هذه المسألة. ومن هنا جاء دعمها الكبير لفصائل المعارضة السورية لصد الهجوم الواسع النطاق الذي شنته قوات النظام، بضوء أخضر روسي، وبمساعدة من المقاتلات الروسية التي حاولت فتح ثغرة يمكن لقوات النظام النفاذ منها إلى عمق إدلب، لكنها فشلت في ذلك. ومنح الصمود الكبير لفصائل المعارضة السورية، في وجه الحملة العسكرية التي شنها النظام السوري بمساندة روسية على مناطق إدلب ومحيطها بهدف إخضاعها، أنقرة الفرصة للعودة بقوة إلى الملف السوري، خصوصاً في شمال غربي سورية، حيث اقتنع الروس أنه ليس بإمكانهم إخضاع هذه المنطقة كما فعلوا في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة في جنوب ووسط سورية.
ويبدو بحسب ما أكدت معلومات متقاطعة، حصلت عليها "العربي الجديد"، من أكثر من مصدر سوري، أن الأتراك بصدد التحضير لترتيبات عسكرية وسياسية للتعامل مع ملف محافظة إدلب، بحيث تضاف إلى منطقة "غصن الزيتون"، التي تضم مدينة عفرين وريفها، إضافة إلى منطقة "درع الفرات" في ريف حلب الشمالي، واللتين باتتا منطقتي نفوذ تركي بلا منازع. ويطرح هذا التوجه معضلة "هيئة تحرير الشام" وضرورة حلها لسحب الذريعة الروسية لاستمرار القصف على شمال غربي سورية بحجة محاربة الإرهاب، والذي يستهدف في المقدمة فصائل المعارضة السورية والمدنيين. وفي هذا الصدد، قالت مصادر مطلعة في المعارضة السورية، لـ"العربي الجديد"، إن الجانب التركي أبلغ شخصيات في الائتلاف الوطني السوري والحكومة السورية المؤقتة أن هناك ترتيبات سياسية وعسكرية وشيكة تخصّ محافظة إدلب وعليهم الاستعداد لهذه المرحلة. وأضافت "أخبرونا (الأتراك) أن مسألة هيئة تحرير الشام ستحل أواخر هذا العام، سلماً أو حرباً، بحيث لن يكون هناك فصيل متشدد يشكل مصدر قلق إقليمي ودولي في شمال غربي سورية، وأن الحكومة السورية المؤقتة سيكون لها الدور الكبير في إدارة المنطقة". وتابعت المصادر "ستستلم الحكومة المؤقتة المعابر الحدودية بين سورية وتركيا، ومن العوائد المالية لهذه المعابر سيتم تقديم الخدمات الرئيسية لسكان المنطقة". ووفق المصادر فإن الجانب التركي سيوكل لنائب والي هاتاي التركية مهمة الإشراف الإداري والخدماتي لمحافظة إدلب ومحيطها حتى نضوج الحل السياسي الشامل للقضية السورية، على أن يتولّى "الجيش الوطني"، التابع للمعارضة السورية، المهمتين العسكرية والأمنية.
ولا تبدو مهمة الأتراك سهلة في نسج خيوط حل يُجنّب منطقة شمال غربي سورية الخيارات الصعبة، لكن السخط الشعبي على "هيئة تحرير الشام" ربما يساعد الأتراك في تفكيكها بهدوء ومن دون تدخل عسكري كبير ربما يجر المنطقة إلى اقتتال دموي. وأكدت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، أن "هيئة تحرير الشام" في إدلب "لم تعد كما كانت من حيث القوة والنفوذ"، مضيفة "أسهمت الانشقاقات والخلافات داخل كوادرها في إضعافها، فضلاً عن أن سياساتها المتشددة، وتدخلها في كل شاردة وواردة في الحياة العامة، أفقدها رصيدها الشعبي". وأشارت المصادر إلى أن الدور الكبير الذي أدته فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" و"جيش العزة" في التصدي لقوات النظام في ريف حماة الشمالي، أكد قدرة المعارضة السورية المسلحة على ملء أي فراغ يمكن أن يتركه اختفاء "الهيئة". وقالت إن "هجوم النظام على ريف حماة الشمالي أعاد ثقة الشارع السوري المعارض بالجيش السوري الحر الذي أثبت أنه قادر على حماية المدنيين والتصدي لأي هجوم من قبل قوات النظام والمليشيات التابعة لها".
وتعدّ محافظة إدلب المعقل البارز للمعارضة السورية المسلحة، التي لطالما صرّح قادة بارزون فيها أنه لا يمكن التفريط به بأي حال من الأحوال، لأن التراجع يعني نهاية الثورة السورية وترسيخ النظام الحالي في السلطة. ومن هنا كان الصمود الكبير للفصائل المقاتلة في ريف حماة الشمالي وفي ريف اللاذقية الشمالي، إذ تدرك هذه الفصائل أنه لم يعد أمامها إلا مقاومة مليشيات النظام ومنعها من اختراق الجبهات في المنطقتين حتى لا يسقط الشمال الغربي كله بيد النظام، مع ما يحمل ذلك من أزمات إنسانية كبرى وعمليات انتقام واسعة النطاق من قبل مليشيات النظام بحق نحو 4 ملايين مدني. كما كان الروس يسعون إلى دفع فصائل المعارضة السورية لإجراء عمليات تسوية و"مصالحة" على غرار جنوب سورية وريف دمشق وريف حمص من خلال الضغط العسكري الكبير، لكنهم فشلوا في ذلك.
وأكد مصدر في الائتلاف الوطني السوري، لـ"العربي الجديد"، أن الروس كانوا ينوون اقتحام كامل الشمال الغربي من سورية لحسم الصراع لصالح نظام بشار الأسد "لكن الصمود الأسطوري لفصائل الجيش السوري الحر أفشل المخطط الروسي". وأضاف "كانت هناك إرادة تركية أميركية مشتركة لإفشال الاستراتيجية الروسية في محافظة إدلب ومحيطها. وضع الروس ثقلهم في المعركة، لكنهم اكتشفوا أن قوات النظام متهالكة، ولا تستطيع التقدم على الأرض رغم القصف المتوحش من المقاتلات الروسية". وبيّن أن "الروس، كما يبدو، اقتنعوا أنهم غير قادرين على التعامل مع ملف إدلب من دون الأتراك، ومن هنا أتت موافقتهم على عقد قمة رباعية أخرى للتداول حول إدلب، تضم روسيا وتركيا وإيران وفرنسا". وأكد المصدر أن هناك بالفعل نيّة تركية لحسم مصير إدلب بشكل نهائي من خلال تفعيل دور الحكومة السورية المؤقتة وإنهاء دور ما يسمى بـ"حكومة الإنقاذ" التابعة إلى "هيئة تحرير الشام"، ومن هنا جاء اختيار رئيس الائتلاف الوطني السوري السابق عبد الرحمن مصطفى رئيساً للحكومة المؤقتة. وأضاف "يحظى الرجل بدعم تركي كبير، فضلاً عن كونه يمتلك الخبرة الإدارية التي تخوله التعامل مع الموقف في شمال غربي سورية". واعترف المصدر أن تحقيق هذه الرؤية "شائك ومعقد"، موضحاً أنه يحتاج إلى الكثير من العمل والجهد.
من جهته، أكد قائد حركة "الوطن" المعارضة العميد فاتح حسون، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه ومنذ قمة سوتشي حول إدلب، والتي نتج عنها اتفاق يحمل اسم المدينة الروسية، "يتم العمل على موضوع حل هيئة تحرير الشام"، مضيفاً "لكنه لم يتقدم بخطوات ثابتة بسبب التصعيد الروسي". وتابع "من صالح محافظة إدلب ومحيطها حل الهيئة حتى لا تتكرر المجازر التي حدثت في الرقة والباغوز في ريف دير الزور الشرقي".