مدينة درنة، التي تبعد 300 كيلومتر إلى الشرق من بنغازي، تعتبر ثاني أكبر مدن شرق ليبيا، إذ تتميز بالطابع الحضري، كما أن للفنون والآداب حضورا عريقا فيها، أما على الصعيد السياسي فقد وفرت البنية التعليمية والثقافية العريقة فيها حضورا ومشاركة سياسية فاعلة لأبنائها في أغلب فترات تاريخ البلاد.
وفي تاريخها القريب برزت درنة كمدينة معارضة لحكم العسكر، ففي منتصف عقد التسعينيات ضرب عليها نظام القذافي حصاراً دام لأشهر، واقتحم منازل سكانها وحرق غاباتها وقام بتمشيط جبالها بحثا عن معارضي حكمه، الذين نشطوا فيها عام 1995، مدعيا أنه يحارب "متطرفي تنظيم القاعدة"، وقد توفي من مناهضي حكم القذافي في درنة العشرات، بعد أن زج بهم في سجن أبوسليم سيئ السمعة عام 1996.
وإثر إعلان الثورة على حكم القذافي بداية عام 2011، تشكلت كتائب الثوار في المدينة تحت مسمى "كتائب شهداء بوسليم" لتشارك في أغلب معارك الإطاحة به.
وعادت درنة مجددا لتعلن ثورتها إثر إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر عن عملية "الكرامة" عام 2014، حيث كان موقف أبناء المدينة واضحاً بمعارضة حفتر ورفضهم عودة حكم العسكر، وكان الرد على ذلك وصم درنة بالتهمة القديمة ذاتها وهي "التطرف والإرهاب" والصلة بتنظيم "القاعدة".
وربما ساعد على توجيه هذه التهمة إلى "ثوار المدينة" وجود عناصر لها انتماء لــ"تنظيم أنصار الشريعة" والإعلان عن مسميات أخرى لتنظيمات تنادي بأفكار إسلامية متشددة، ورغم أن هذه التنظيمات لا تمتلك الغلبة والقوة في المدينة، إلا أن حفتر وحلفاءه وجدوا فيهم ذريعة لإلصاق تهمة "الإرهاب" بالمدينة.
غير أن المفارقة التي أدهشت بل غيرت من نظر الكثير من المتابعين وأصحاب المواقف في دول إقليمية ودولية هي انتفاضة "ثوار المدينة"على تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وخوضهم حربا تمكنوا خلالها من إخراج التنظيم إلى شرق المدينة، وتحديدا إلى مرتفعات الفتائح، ليبقى مقاتلو "داعش" متمترسين فيها إلى الوقت الذي فوجئ فيه الجميع بانتقالهم بكل أريحية إلى مدينة سرت على بعد أكثر من 800 كيلومتر، مرورا بعشرات المعسكرات التابعة لحفتر، دون أن يطلق عليهم أحد رصاصة واحدة.
وبعد مقتل العشرات من قيادات ثوار المدينة وعناصرهم في حروب إسقاط نظام القذافي وبالتزامن مع خلافاتهم مع الكثير من السياسيين، فقد شكلوا جسما يجمعهم تحت مسمى "مجلس شورى مجاهدي درنة" منتصف عام 2014، ليكون جبهة جديدة في شرق البلاد ضد حراك حفتر العسكري الطامح للسيطرة على شرق البلاد.
ورغم وفاة أبرز قادة مجاهدي درنة، كسالم دربي، مؤسس المجلس، وناصر العكر، في يونيو/حزيران من عام 2015 أثناء مواجهاتهم مع تنظيم "داعش" ، إلا أن المجلس لا يزال يشكل جبهة متماسكة، ولم يتمكن حصار قوات حفتر المضروب على المدينة منذ عام ونصف تقريبا من إضعافها.
وشكلت قوات حفتر غرفة عسكرية لشن هجوم على مدينة درنة مطلع العام الماضي، لكن النتائج الكارثية التي أنتجتها حروبه في بنغازي جعلت الكثير من القبائل الداعمة له تتوقف عن مده بالمقاتلين، ما دفعه لضرب حصار على المدينة دون اقتحامها حتى الآن.