في اليوم الثاني من فوزه، حرص الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب على تقديم نفسه بمظهر رئاسي تصالحي، لاسيما خلال زيارته أمس الخميس، إلى البيت الأبيض ثم الكونغرس، إذ حاول التصرف بما يوحي بأنه يتهيّب المنصب ومسئولياته وأنه لبس ثوب التواضع ووضع نفسه على طريق مغادرة الخطاب الانتخابي الأهوج، ليكون الرئيس لكافة الأميركيين، وليبدأ رحلة "التعقل" في التعامل مع تحديات الداخل والخارج، خصوصاً أنه على دراية بأن أكثر من نصف الشعب الأميركي ضده. ومن المعلوم أن ترامب ربح بأصوات المجمع الانتخابي وليس بأصوات الناخبين، الذين كانت حصة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون منهم أكثر من حصته.
وخلال لقاء أمس، ساعده الرئيس بارك أوباما في إطلاق هذه البداية، من خلال إحاطته بالرعاية وبتمديد فترة اللقاء بينهما من ربع ساعة إلى ساعة ونصف الساعة، وما تبعها من مصافحة وكلام طيب، في لقطة أمام الكاميرا في المكتب البيضاوي، أعرب خلالها أوباما عن استعداده لتسهيل مهمة تسلم خلفه للسلطة. وكان لافتاً أن ترامب رد بالمثل، شاكراً وواعداً بطلب المشورة من أوباما وبلغة ودّية غير مألوفة.
تركت هذه الأجواء التي فرضها التقليد انطباعاً بأن "المؤسسة"، أي الإدارة والكونغرس والنخبة السياسية، بدأت في احتواء ترامب، وأن هذا الأخير قد يكون أدرك بأنه لا يقوى إلا على التجاوب؛ لأن المسؤولية هائلة، ولا بدّ بالتالي من الانضباط تحت سقف القواسم المشتركة لتوفير مقومات النجاح، خصوصاً أن ترامب "لا يطيق الفشل والخسارة"، لكن ذلك لا يخرج عن القشور على الأقل في حدود اللحظة الراهنة.
لا شك أن انتخاب ترامب خلق نقطة تحول في الحياة السياسية الأميركية بعده لن تكون الأمور كما كانت عليه من قبل التركيبة الحزبية التقليدية، التي دخلت طور التفكك، إذ أن الحزب الجمهوري مترنح منذ ما قبل الانتخابات "فوز ترامب وضعه على طريق تدمير ما بقي منه"، كما قال أحد مشاهير المنظرين للفكر المحافظ في الولايات المتحدة الأميركية، جورج ويلّ. كما أن الجمهوريين الذين فازوا في مجلسي الشيوخ والنواب، وصلوا تحت اسمه، هم مدينون له، عملياً صاروا تحت لواء حزبه، الذي سبق أن تخلت معظم قياداته عنه (أي ترامب)، كما سبق له أن تنكر لهم وانشق عنهم.
أمّا الحزب الديمقراطي، فقد كشف عن وهن عميق أدى إلى خسارته للرئاسة، إذ ابتعد عن جمهوره، وتعالى عليه لسنوات، وعلى الرغم من أن خطط حملة كلينتون نهضت على هذه الثقافة السياسية المنفصلة عن الناس، غير أنها اكتفت ببيع الكلام؛ في النهاية ابتعد عنها حوالي ثلث الناخبين السود واللاتينون والنقابات العمالية. كتلة محسوبة على خندقها عاقبت الحزب، الآن هناك حراك لتجاوز أطر هذا الحزب وتشكيل تيار معارض لإدارة ترامب والقيام "بثورة سياسية" سيقودها المرشح الرئاسي السيناتور بيرني ساندرز مع فريق من الرموز الليبرالية المعروفة، ستكون باكورة تحركهم تظاهرة نسائية مليونية في واشنطن، يوم تدشين رئاسة ترامب في 21 يناير/كانون الثاني المقبل، بحسب المخرج السينمائي والمؤلف الناشط والمعروف مايكل مور.
هذا الفريق الثوري ينطلق في حراكه من اعتبارين، الأول أن "الحزب الديمقراطي كالجمهوري، فاته الزمن ولا بد من بديل"، ثانياً أن ترامب الفردي السلطوي والانتقامي، لن يتغير وستكون رئاسته كارثة ومما يستدعي التصدي لها.
ومثل هذا التشخيص لا يقتصر على هذا الفريق الصريح في موقفه، بل هو اعتقاد سائد في العمق، وما يحصل الآن من محاولات احتواء لترامب، يجري على أساس تقليل الخسائر ما أمكن؛ فالرجل وصل بخطاب شعبوي عنصري لا يخلو من مسحة فاشية مبطّنة، مكّنه ذلك من خطف الرئاسة في لحظة قلق وسخط شعبي وترهل سياسي جمهوري وديمقراطي، قوته (أي ترامب) من شعبويته التي لا بد له أن يثبت لمؤيدها بأنه قوي وحازم و "كاسر عظم"، كما وعد، ما يشير إلى أنه ينوي تشكيل إدارة من عتاة الصقور، خاصة في الحقائب المفصلية في السياستين الداخلية والخارجية.
وتقول القاعدة في الولايات المتحدة إن "كل السياسات محلية" بما فيها الخارجية التي يُرجّح أن تكون حقيبتها لرئيس مجلس النواب الأسبق نيوت غينغريتش. كما قد تكون حقيبة الدفاع من نصيب الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الذي عمل كمستشار في حماة ترامب، فضلاً عن رودي جولياني للعدلية أو الأمن؛ طاقم شوفيني بطّاش.
عملية الانتقال ما زالت في بداياتها، غبار الزلزال لم يهدأ بعد، ثمة توجه لمنح ترامب الفرصة، لكنه في الحقيقة شراء وقت، لكن الكلمة الفصل بالنهاية تبقى لمعطيات الواقع الذي يبدو أن أربابه هذه المرة قادمون بذهنية الانتقام والتطويع العسفي بحماية القانون.