في 13 يونيو/حزيران 1978، وفي شمال لبنان، وتحديداً في بلدة إهدن، وقعت إحدى أبشع المجازر في تاريخ الحرب الأهلية التي امتدت من العام 1875 إلى العام 1990، وتخللتها فاتورة باهظة دفعها من دمه الشعب وحتى من قاد مليشيات تلك الحرب. 28 عاماً مرت على انتهاء الحرب. وُقّع اتفاق الطائف، وطويت الصفحة سريعاً، بلا محاسبات وبلا معالجات جدية لما تخللها، وبقيت الكثير من الصفحات مفتوحة، تُستحضر عندما تدعو الخلافات السياسية، وتنكأ حينما تفرض اللعبة في لبنان تجييشاً. ولعل مجزرة إهدن تُعتبر الأكثر قتامة في سجل الصفحات المسيحية. يومها قُتل طوني فرنجية، نجل الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية، الذي كان قائداً لمليشيا "المردة"، ومعه زوجته فيرا قرداحي وابنته جيهان البالغة من العمر آنذاك سنتين ونصف السنة، وأكثر من ثلاثين من أنصاره.
نفذ حزب "الكتائب" يومها المجزرة بعد خلافات تراكمت بينهما، على الرغم من أنهما كانا منتميين إلى الجبهة اللبنانية. حاول الرئيس الأسبق بشير الجميل، قائد "القوات اللبنانية" آنذاك، الهيمنة على الحلفاء في الجبهة ودمج المليشيات المسيحية المشاركة تحت راية "القوات اللبنانية"، وكان للدور السوري حضور قوي، وسط خلافات بين "المردة" التي كانت مقربة من سورية، و"الكتائب"، فقرر الجميل المباغتة، وكلّف سمير جعجع (رئيس حزب القوات حالياً) بالهجوم على معقل فرنجية في إهدن، لكنه أصيب قبل الوصول، فتولى أحد القادة الميدانيين العملية.
بقي جرح مجزرة إهدن وحده مفتوحاً بين "القوات" و"المردة" منذ خروج جعجع من السجن عام 2005، إذ تم إغلاق ملف حرب الإلغاء بين "القوات" و"التيار الوطني الحر"، ثم انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لكنه كان اتفاقاً سياسياً أكثر منه مصالحة تحمل معها إغلاقاً لمرحلة سوداء في التاريخ اللبناني الحديث.
يوم الأربعاء الماضي، سجل حزب "القوات" وتيار "المردة" فصلاً جديداً من فصول ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، في مصالحة بين زعيميهما، سمير جعجع وسليمان فرنجية، أصرّا على وصفها بـ"الوجدانية" و"الشخصية" للإشارة إلى عدم شمولها المواقف السياسية المتباعدة كلياً بين الطرفين، أكان داخلياً أو خارجياً. فحزب القوات ضد حزب الله والنظام السوري وحليف للسعودية، بينما "المردة" مؤيد لحزب الله ولبشار الأسد ولنظامه ومحسوب تماماً على المحور الإيراني في المنطقة. "مصالحة شخصية" أو "وجدانية" قد تكون الأهم منذ مصالحة الجبل بين الطائفة الدرزية ممثلة برئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، والبطريرك الماروني السابق الكاردينال نصرالله بطرس صفير في العام 2000، والتي مهدت لاحقاً لفتح صفحة جديدة في جبل لبنان الجنوبي، كما مهدت لتقارب درزي-مسيحي، كان أساسياً في بلورة وتجميع القوى المعارضة للنفوذ السوري، كما في الضغط لاحقاً بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري لانسحاب النظام السوري من لبنان.
لا تعني مصالحة "القوات" و"المردة" سياسياً بالمعنى الآني الكثير، لكنها بالمعنى التاريخي تعني الكثير، وتؤكد ضرورة إغلاق ملفات الحرب الأهلية بطريقة عملية، خصوصاً أن لهذه المصالحة خصوصية في شمال لبنان، وتحديداً بين قضاء زغرتا الذي تهيمن عليه "المردة"، وبين قضاء بشري الذي تهيمن عليه "القوات اللبنانية". وعليه يبدو مفهوماً تخصيص شق أساسي في الوثيقة التي أعلنت من بكركي بعد لقاء الرجلين، لإجراء قراءة نقدية معمّقة للانقسام المسيحي وتأثيره على الدور والحضور المسيحيين في لبنان، كما الإشارة إلى الشمال بوصفه "الحصن" المسيحي تاريخياً، والابتعاد عن الوضع السياسي الراهن إلى اعتبار المصالحة حدثاً تاريخياً إنسانياً بالدرجة الأولى.
لا شك أن التطورات السياسية التي شهدها لبنان خلال الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتولي الوزير جبران باسيل رئاسة "التيار الوطني الحر"، ومحاولته اختزال التمثيل المسيحي، والصراع المتوقع على موقع رئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة عام 2022، كلها ساهمت في دفع المصالحة بين "القوات" و"المردة". لكن عملياً لا يمكن ربط هذه المصالحة بجبران باسيل، واعتبار أنها جاءت "نكاية" به كما يردد البعض، خصوصاً أن الانتخابات النيابية الأخيرة أظهرت حضوراً قوياً لـ"المردة" و"القوات" في شمال لبنان، يفوق حضور "التيار الوطني الحر"، وكذلك حضوراً كبيراً لـ"القوات" في كل لبنان، فيما بدا واضحاً تراجع أرقام "التيار"، وإن كانت التحالفات التي نسجها مع شخصيات مستقلة وحزبية في أكثر من منطقة، حدّت من هذا التراجع.
بدأت قصة التقارب بين "القوات" و"المردة" قبل نحو خمسة أعوام. قبلها حاول أكثر من طرف العمل على تحقيق مصالحة تطوي صفحة الحرب، على الرغم من تموضع كل طرف في تحالف سياسي متصارع مع الآخر، وتحديداً منذ خروج جعجع من السجن، لكن حدّة الخلافات السياسية بين قوى "14 آذار" و"8 آذار" كانت تمنع إتمام المهمة.
خلال أزمة الفراغ الرئاسي الأخيرة (منذ منتصف 2014 وحتى انتخاب عون في 2016)، طرح رئيس الحكومة سعد الحريري، اسم سليمان فرنجية، كرئيس للجمهورية، لكن يومها لم يوافق "التيار الوطني الحر" على أي مرشح غير عون. سقطت محاولة "المستقبل" في اختراق الجمود السياسي، وظل الفراغ حتى بدأ الحوار بين "القوات" و"التيار"، وانتهى بورقة التفاهم بينهما، وانتخاب عون رئيساً.
عندما طرح الحريري اسم فرنجية، يقال إنه كان يدرك حقيقة أن المصالحة بين "المردة" و"القوات" بدأت تتحوّل إلى طرح جدي، خصوصاً أنه في ذلك الوقت كانت اللقاءات السرية بينهما قد اتخذت طابعاً جدياً لإقفال ملف الحرب الأهلية اللبنانية، فطرح الحريري اسم فرنجية، علّه يحقق الخرق المطلوب، استناداً إلى إمكانية التوافق بين "المردة" و"القوات"، بما أن الخطوط كانت مفتوحة.
عملياً قرار المصالحة اتُخذ منذ ذلك الحين، لكن التأخير كان مرتبطا أساساً بما يعتبره الطرفان ضرورة لتحقيقها عبر خطوات فعلية على الأرض وبين قواعد كل طرف، وآخرها الجلسة التي عقدها فرنجية مع أهالي أنصار والده الذين قضوا معه في المجزرة، فيما جال النائب السابق عن "القوات" فادي كرم في قضاء الكورة، على عائلات قتلى الحزب، الذين سقطوا خلال الفترة ذاتها، طالباً مباركة المصالحة. حتى التوافق على اختيار بكركي لإعلان اللقاء والمصالحة اختير بدقة، خصوصاً أنها مصالحة مسيحية، لا بد أن تتم بمباركة من قبل البطريرك بشارة الراعي، إضافة إلى عائلات الضحايا.
وعلى الرغم من أن المصالحة لا تأتي في سياق سياسي واضح، إلا أن الأكيد أن توقيعها، والتنسيق على مدار الفترة الماضية بين "القوات" و"المردة"، سيكون لهما تأثير واضح على الحياة السياسية اللبنانية، وخصوصاً على صعيد التنسيق بينهما في أكثر من ملف تشريعي أو حكومي، أو حتى على الساحة المسيحية، مع بقاء كل طرف في تموضعه السياسي الإقليمي والداخلي.
وعطفاً على المصالحة بين "القوات" و"المردة" التي صيغت بعناية، وبالتزامن مع إقرار مجلس النواب لقانون المفقودين والمخفيين قسراً في لبنان، يخطو بذلك لبنان متأخراً صوب معالجات لم ترقَ في الفترة الماضية إلى المستوى الفعلي لما شهدته البلاد خلال الحرب الأهلية، ولا إلى احترام حقوق ضحايا هذه المرحلة، أقله بالاعتذار والاعتراف وكشف المصير وما حصل في تلك الفترة، باستثناء مصالحة الجبل، لتأتي اليوم مصالحة شمال لبنان وإقرار قانون المفقودين، ليساهما ولو قليلاً في إنهاء حرب سكت فيها السلاح لا الذاكرة.