بعد يوم عصيب، عادت الحياة إلى طبيعتها في العاصمة السودانية الخرطوم، عقب تمرد مسلح نفذته هيئة العمليات بجهاز المخابرات للمطالبة باستحقاقات مالية عقب تسريح أفرادها.
ولاحظ مراسل "العربي الجديد" خلال جولة في شوارع الخرطوم، إعادة تشغيل عدد من الطرق التي أغلقت أمس نتيجة التمرد، بما في ذلك الطرق القريبة من المقرات الأمنية التي وقع فيها التمرد، كما تراجع الانتشار الأمني في العاصمة، وفتحت المحلات التجارية والمؤسسات العامة أبوابها بصورة اعتيادية، فيما تخوفت معظم الأسر من إرسال أبنائها للمدارس وأبقتهم في المنازل، بينما عبر مواطنون عن صدمتهم لما جرى وسط الأحياء، أمس الثلاثاء، من اشتباكات بالأسلحة الثقيلة.
وقال المواطن السوداني عادل الصديق لـ"العربي الجديد"، إن "الأحداث أثبتت خطأ وجود مقرات أمنية وسط أحياء كافوري والرياض وسوبا"، مشيراً إلى أن ذلك "كاد أن يقود لكارثة إنسانية"، مستشهداً بمقتل أسرة كاملة بضاحية سوبا بعد سقوط قذيفة في منزلها.
على الصعيد الميداني، أكدت القوات المسلحة السودانية سيطرتها الكاملة على كل مقار هيئة العمليات، في الساعات الأولى من صباح اليوم، بما في ذلك المقر الرئيسي في ضاحية الرياض، شرق الخرطوم، القريب جدا من مطار الخرطوم.
وأعلن بيان للقوات المسلحة عن مقتل اثنين فقط من أفرادها خلال المواجهات، لكنها صمتت عن تحديد حجم الخسائر وسط أفراد هيئة العمليات، وهو أمر يتوقع البعض أن يكون كبيرا بالتوازي مع حجم الأسلحة التي استخدمت في فض التمرد.
وكانت محاولات التوصل إلى حل سلمي قد فشلت في الساعات الأولى، حيث تدخل كبار ضباط المخابرات المتقاعدين وانتهت محاولاتهم بالفشل، وربما فضلت السلطات الحكومية خيار الحسم العسكري أكثر من غيره لكونه يعطي صورة مختلفة عنها، بعدما وسمت في الفترات السابقة بالتهاون في شؤون أمنية مهمة، كما حدث في مدينتي الجنينة وبورتسودان.
ولذا يبدو أن السلطات حرصت هذه المرة أن تظهر بصورة أكثر حسماً بعدم التهاون مع الانفلاتات الأمنية التي تحدث أثناء الفترة الانتقالية فعمدت إلى إظهار قوتها باستخدام الأسلحة الثقيلة أثناء العملية، لا سيما في منطقة سوبا التي استمر فيها إطلاق النار لأكثر من ساعة، كما حرصت أن تكون العملية مشتركة بين الجيش وقوات الدعم السريع وبعض وحدات الشرطة، حتى تعطي انطباعاً جيداً عن وحدة القوات النظامية وعملها كمنظومة واحدة.
سياسياَ، يبدو أن المكونين العسكري والمدني في الحكومة عمدا إلى استثمار الحدث للتأكيد على الشراكة بينهما لإكمال مهام الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وما يدلل على ذلك هو وجود رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، وقيادات تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير"، في غرفة العمليات، بمقر القيادة العامة للجيش، جنبا إلى جنب مع رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أثناء إدارته للعمليات.
وتخوف البعض من أن تكون تلك الرسالة التي أرادت الأطراف إرسالها، محاولة لتسويق المكون العسكري وسط الثوار الذين لديهم تحفظات كبيرة، منذ فض اعتصام محيط القيادة العامة للجيش السوداني، الذي سقط فيه أكثر من 100 من المعتصمين.
كما أن نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، حاول هو الآخر عبر مؤتمر صحافي، تسويق نفسه كحام للثورة وقدم إشارات على أن جهاز المخابرات الذي تمردت هيئة عملياته أمس، هو ذاته الجهاز الذي ربما يكون قد تورط في أحداث القتل أثناء فض الاعتصام.
لكن الذي كان لافتاً أكثر في حديث دقلو لأول مرة، هو تصعيد المواجهة مع النظام السابق الذي ينشط هذه الأيام في تسيير مواكب ضد الحكومة الحالية. ويسعى الفاعلون من النظام السابق إلى تركيز هجومهم على الشق المدني ممثلاً في حكومة عبد الله حمدوك والمطالبة بإسقاطها على عجل قدر الإمكان، لكن يبدو أن حالة التقارب التي كانت قائمة بين دقلو والنظام في طريقها للتلاشي، وربما تصل حد المواجهة، سواء بزيادة أعداد المعتقلين من رموز النظام السابق أو منع التظاهرات الجديدة التي أعلنت في كل من ولاية غرب كردفان والعاصمة الخرطوم في يومي 18 و26 من الشهر الجاري. ويسعى دقلو من خلال تلك المواجهة إلى إعادة الود المفقود بينه وبين الثوار منذ حادثة فض الاعتصام.
كذلك ولأول مرة يظهر دقلو بموقف ضد مدير جهاز الأمن والمخابرات الأسبق الفريق أول صلاح قوش، الموجود حالياً في مصر، حيث كانت العلاقة بين الاثنين على ما يرام، خاصة في أيام الإطاحة بالرئيس البشير، التي لعب فيها الرجلان دوراً كبيراً، قبل أن يتم إقصاء قوش من المشهد ومواجهته ببلاغات جنائية وهروبه بعد ذلك لمصر.
دقلو حمل قوش مسؤولية ما جرى، وفيما لم يرد الأخير حتى الآن، فإن مقربين منه يقولون إنها اتهامات غير حقيقية وإنها تأتي في إطار الصراع السياسي القائم، مستنكرين الربط بين الإسلاميين وقوش في الوقت الحالي وتحميلهم مسؤولية ما حدث، باعتبار أن العلاقة بين الطرفين في أسوأ حالاتها.