لا يزال لبنان رهينة الأزمة السياسية الأخيرة التي أعقبت حادثة منطقة قبرشمون في قضاء عاليه (جنوب شرقي بيروت) مطلع شهر يوليو/تموز الحالي، والتي راح ضحيتها اثنان من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب، وذلك عقب الخلافات التي اندلعت جراء زيارة وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل إلى الجبل، واعتراض مواطنين على هذه الزيارة. وكانت مساعي بعضهم، خصوصاً مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم نجحت في سحب فتيل التوتر، بالتزامن مع مساع لحلحلة الأزمة السياسية التي نجمت عن هذا التصعيد، إلا أن هذه الجهود كادت أن تعود إلى نقطة الصفر، مع وقوع حادثة جديدة أمام منزل الغريب فجر أول من أمس السبت في بلدة البساتين حيث وقعت الحادثة الأولى.
واتهم الحزب الديمقراطي الذي يتزعمه النائب طلال أرسلان، والذي يحسب عليه الغريب، أحد مناصري الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه النائب السابق وليد جنبلاط، ويدعى ريان مرعي، بمحاولة اقتحام منزل الغريب، ما دفع العناصر المكلفين بتأمين المنزل إلى إطلاق النار وإصابته، إلا أن الحزب الاشتراكي ردّ، مشيراً إلى أن المواطن لا ينتمي إلى الحزب، وكان ماراً أمام المنزل قبل أن يُطلق النار عليه، لكن الجيش اللبناني حسم الجدل لاحقاً موضحاً أن مرعي كان في حالة سكر، وحاول دخول المبنى.
وبدا واضحاً من حرب البيانات التي توالت، أن التصعيد السياسي مستمر، خصوصاً أن بعضهم يحاول استغلال أي حادثة وتضخيمها، وتسجيل نقاط سياسية عبرها، بما أن الأزمة عموماً لا تزال مفتوحة، ونجحت في شل الحكومة، ومنع انعقاد جلساتها، بسبب مطلب الحزب الديمقراطي إحالة حادثة الجبل إلى المجلس العدلي، ورفض رئيس الحكومة ومعه وزراء الاشتراكي و"القوات اللبنانية" ذلك. وطرح في السياق اقتراحات عدة للخروج من الأزمة عبر الوسيط عباس ابراهيم، وكذلك عبر مساع تولاها رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلا أن جميعها سقط مع إصرار أرسلان حصراً على إحالة الجريمة على المجلس العدلي، خصوصاً أنه يعتبر ما حصل "محاولة لاغتيال الغريب".
وعادة ما يحيل مجلس الوزراء باستنسابية بعض القضايا التي تشكل تهديداً للأمن والسلم الأهلي والاستقرار إلى المجلس العدلي، وهي محكمة استثنائية، لا يمكن استئناف الأحكام التي تصدرها. لكن الأهم أنه مجلس مرتبط بمجلس الوزراء، أي بخلفية سياسية، إذ تُحال القضايا أمامه بقرار سياسي وعادة بطريقة استنسابية، إضافة إلى أن التحقيقات عادة ما تجريها النيابة العامة التمييزية التي تحيل لاحقاً أي قضية للمحكمة، لكن في حالة المجلس العدلي، فإنه فور إحالة مجلس الوزراء للقضية أمامه، فإنه يتم تعيين محقق عدلي من قبل وزير العدل ألبير سرحان، المحسوب على "التيار الوطني الحر"، وبالتالي يمكن القول إن التدخل السياسي، أو التأثير السياسي في حالة المجلس العدلي يمتد أيضاً إلى التحقيقات.
وتستغرب مصادر سياسية مقربة من الاشتراكي، ومحسوبة سابقاً على فريق "14 آذار"، الإصرار على إحالة القضية على المجلس العدلي رغم أنه طرح أكثر من مخرج ومنها المحكمة العسكرية، التي يمكن أن تؤدي الدور ذاته، لجهة مطلب تسريع المحاكمة وغيره. لذلك لا يمكن فهم الخطوة سوى أنها محاولة لاستهداف جنبلاط.
وبناءً على ذلك تؤكد المصادر أن جملة من الأسباب تقف خلف تعنت الحزب الديمقراطي، وحليفه "التيار الوطني الحر" برئاسة باسيل، ومن خلفه قوى "8 آذار"، مشيرة إلى أن هذا الفريق يحاول وضع يده على الحكومة بعد أن نجح في مرحلة تأليف الحكومة في الاستحواذ على الأكثرية الوزارية.
وإن كان الهدف الأول واضحاً ومرتبطاً برئيس الحكومة سعد الحريري، ودوره الذي بات مهمشاً، بحسب المصادر، إلا أن الهدف الثاني بات معلوماً للجميع، وهو كسر وليد جنبلاط درزياً، بعد الانتخابات الأخيرة، وهو ما صار واضحاً للجميع إثر الإشكالات المتكررة في الجبل، وإثر الضغوط السياسية التي تمارس على جنبلاط بأكثر من ملف.
ولفتت المصادر إلى أن التخوف جدي على سلامة جنبلاط، وهو ما دفع أكثر من شخصية سياسية في السر والعلن، مثل رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، والوزير وائل أبو فاعور، إلى التحذير من سيناريو لاستهداف جنبلاط شبيه بمرحلة عام 1994، الذي شهد تفجير كنيسة "سيّدة النجاة" في منطقة الزوق في قضاء كسروان، التي اتهم جعجع بالوقوف خلفه ثم تمّت تبرئته.
وبعيداً عن سيناريوهات الاستهداف التي تؤكد المصادر أنها ليست سهلة، خصوصاً أن جنبلاط يعتبر الممثل الأول للطائفة الدرزية، إذ نال أكثر من 85 في المائة من أصوات هذه الطائفة في الانتخابات النيابية الأخيرة (مايو/أيار 2018)، إلا أنه في الحد الأدنى يحاول بعضهم اليوم ابتزاز الرجل سياسياً، عبر إدخاله في صراعات ضمن الطائفة، تحاول تكريس معادلة الثنائية ضمن الطائفة. وهي صراعات بدأت مع إعلان تشكيل ما يسمى بالمعارضة الدرزية والتي تضم حلفاء سورية و"حزب الله" في الطائفة الدرزية، ولاحقاً إصرار "التيار الوطني الحر" على تمثيلهم في الحكومة بمقعد وزاري.
وتلفت المصادر إلى أن التصعيد الحالي يهدف، إضافة إلى ابتزاز جنبلاط، إلى ترويضه سياسياً، خصوصاً أنه الوحيد الذي بقي خارج إطار التسوية التي أنتجت في السنوات الأخيرة، والتي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بعد تفاهم مسيحي – مسيحي، وبعد تسوية بين تيار "المستقبل" و"التيار الوطني الحر". أما في الحسابات الدرزية فتقول المصادر إن المطلوب اليوم يبدو تنازلاً ما من قبل جنبلاط خصوصاً في ملف التعيينات، والتي عادة ما يتحكم بالحصة الدرزية، خصوصاً أنه تردد علناً في الفترة الماضية الحديث عن منح "المعارضة الدرزية" حصة الثلث من هذه التعيينات.