لم تكن هبّة الأقصى الأخيرة التي فجّرت غضبا فلسطينياً عارماً على محاولة الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض تحكم سيطرته على المسجد الأقصى، فوق ما له من سيطرة ونفوذ، أول محطة في سلسلة الاعتداءات الطويلة على هذا المسجد والتي كانت ابتدأت في الحادي والعشرين من شهر أغسطس/آب من عام 1969، حيث جريمة إحراق المسجد الأقصى التي توافق اليوم الإثنين، ذكراها الـ48.
لكن الهبّة الأخيرة، التي ارتقى فيها ثمانية من الشهداء في القدس وحدها كانت المحطة الأبرز، حيث جسّد المقدسيون حالة خاصة بهم في الدفاع عن الأقصى، بتقديمهم أولا أربعة شهداء، ثم فرض وقائع على الاحتلال أجبرته على التراجع عن خطواته الاستفزازية بوضع بوابات إلكترونية، كادت أن تحول محيط الأقصى إلى سجن كبير، وتحول المصلين إلى أسرى للبوابات ولإجراءات الفحص الإلكترونية، التي رد عليها المقدسيون بالزحف على مدى أسبوعين إلى محيط مسجدهم بعشرات الآلاف.
المقدسيون حينها افترشوا الشوارع والساحات العامة وأدوا صلواتهم فيها، رغم ما خلفته خطوة التحدي هذه من اعتقالات وإصابات بالمئات، فيما نجحوا في خلق حالة من الالتفاف والتكافل الجماهيري غير المسبوقة التي أعادت إلى أذهان الفلسطينيين عموما حال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وما كان عليه المنتفضون في ذلك الوقت من تكافل والتفاف شعبي حول قضيتهم الوطنية.
وفي هذا الإطار، يقول الشيخ عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية في القدس لـ"العربي الجديد": إن "الهبّة الأخيرة محطة مباركة من محطات الرباط الفلسطيني التي ابتدأت بعد جريمة إحراق المسجد الأقصى التي توافق ذكراها المشؤومة اليوم. والفضل فيما حققته هذه الهبة يعود لشبابنا أولا الذين انخرطوا في حراك سلمي مع مرجعياتهم الدينية، ليحققوا ما حققوه من نتائج، مع تأكيدنا أن عدونا لا يؤمن جانبه، وهو ما يتطلب يقظة دائمة، لأن الأقصى لا يزال في خطر شديد، وحيث لا يزال المستوطنون يقتحمونه يوميا بأعداد كبيرة".
كان الشيخ صبري، ومعه المفتي العام للقدس الشيخ محمد حسين من بين شهود كثيرين على جريمة إحراق الأقصى في العام 1969، وكانا من بين من قادوا وتصدروا جموع المواطنين الغاضبين الذين اندفعوا في حينه بالآلاف إلى ساحات مسجدهم يحملون دلال الماء، ويخرجون البسط المحترقة، والأعمدة المزخرفة في مشهد غلب عليه بكاء الحاضرين، الذين أرعبتهم الانهيارات التي كانت تحدث للمسجد من الداخل ومنها منبر صلاح الدين، كما يقول الشيخ عكرمة صبري، ويوافقه الرأي أيضا الشيخ محمد حسين، وكلاهما كانا في ذلك الوقت خطيبين وإمامين للمسجد الأقصى.
قبل الهبة الأخيرة للأقصى، كانت المدينة المقدسة والمسجد الأقصى في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2015، على موعد أيضا مع هبّة أخرى كان المسجد الأقصى والمرابطات فيه عنوانها الرئيس، وهو ما فجّر في حينه ما عرف بـ"ثورة السكاكين" استهلها الشهيد مهند الحلبي من رام الله بعملية فدائية جريئة في شارع الواد بالبلدة القديمة من القدس، وعلى بعد عشرات الأمتار من المسجد الأقصى، حيث قتل مستوطنين وأصاب آخرين، أعقبتها سلسلة من عمليات الطعن والدهس، وكانت جميعا انتقاما لما يتعرض له الأقصى من انتهاكات يومية من قبل جنود الاحتلال والمستوطنين، وتلبية لنداء المرابطات المقدسيات اللواتي تعرضن لاعتداءات من قبل الاحتلال بالضرب والسحل والاعتقال والإبعاد عن المسجد الأقصى.
الإبعادات متواصلة
التطور الأهم في ممارسات الاحتلال التي استهدفت الأقصى، هو عزل المصلين عنه ومنعهم من دخوله، وهي إجراءات طاولت على مدى الأعوام 2007 ولغاية الآن أكثر من 1200 مبعد، من حراس الأقصى وموظفي الأوقاف والمرابطات، وبعض الرموز الدينية والوطنية من أمثال الشيخ رائد صلاح، ونائبه كمال الخطيب، ومستشاره لشؤون القدس والأقصى الشيخ علي أبو شيخة، وعدد لا حصر له من العلماء خاصة من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948.
كما طاول الإبعاد عن الأقصى كذلك رموزا وطنية أمثال حاتم عبد القادر القيادي في حركة فتح، وناصر قوس مدير نادي الأسير في القدس، وأمجد أبو عصب رئيس لجنة أهالي الأسرى المقدسيين، إضافة إلى العشرات من الحراس، من بينهم جميل العباسي المبعد لمدة 4 أشهر عن الأقصى، بقرار صدر مطلع شهر إبريل/نيسان الماضي، حيث أكد لـ"العربي الجديد"، أنه خلال عام واحد أبعد لمدة 8 أشهر عن الأقصى، وفي كل إبعاد يتم فتح ملفات سابقة له على قضايا قديمة.
ويشير العباسي، إلى منعه من دخول الأقصى في شهر رمضان في الأعوام 2014، 2016، 2017، أما الإبعاد الأخير، فهو الإبعاد الـ19 حيث كانت تمتد الفترات من 15 يوماً لتصل إلى 6 أشهر، والأول كان عام 2006، ومنها ما كان إبعادا عن كامل البلدة القديمة.
أما طارق الهشلمون، الموظف في دائرة الأوقاف، فقد أبعد مؤخرا عن الأقصى لمدة 6 أشهر، علما بأن منزله لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن المسجد الأقصى.
ويرى حاتم عبد القادر مسؤول ملف القدس في حركة فتح، أن إجراءات الاحتلال واعتداءاته بحق الأقصى لم تتوقف على مدى عقود الاحتلال لمدينة القدس، وأخطرها كان جريمة إحراق الأقصى، ثم قتل المصلين لاحقا في المجازر الشهيرة التي ارتكبت في ساحاته، ومنها مجزرة الأقصى الأولى التي حدثت في 8 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1990، وفيها ارتقى نحو عشرين شهيدا إضافة إلى مئات الجرحى، حين هب المصلون دفاعا عن مسجدهم لمنع الحاخام المتطرف غرشون سلمون من إدخال ما يسمى حجر الأساس للهيكل المزعوم.
ويتابع عبد القادر: "أعقب ذلك مجزرة ثانية عقب استباحة رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرائيل شارون للمسجد في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2000، وكانت سببا لاندلاع الانتفاضة الثانية التي ارتقى فيها آلاف الشهداء في المواجهات التي عمت مختلف محافظات الوطن على مدى سنوات، وتخللها اغتيال العديد من القادة والرموز على رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وأبو علي مصطفى".
وكان سبق هاتين المجزرتين، قتل أحد حراس المسجد الأقصى ويدعى الشيخ صالح اليماني في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إضافة إلى شهيد آخر وهو فتى من عائلة بدر من سكان عقبة السرايا بالبلدة القديمة من القدس بعد المواجهات التي اندلعت هناك عقب اقتحام الأقصى من قبل المتطرف غودمان، وإطلاق النار على مسجد الصخرة المشرفة حيث ارتقى هناك الشهيد صالح اليماني.
حراس القدس شهود الانتهاكات
ومع الذكرى الثامنة والأربعين للمسجد الأقصى، يتذكر أحد حراسه حسن أبو زنيد (70 عاما) من مخيم شعفاط شمال القدس، كيف تمكن من إحباط محاولة تنظيم إرهابي يهودي تفجير المسجد الأقصى، في مستهل الثمانينيات، أعقبه اعتقال عناصر تنظيم إرهابي ومن أبرزهم يهودا عتصيوني، الذي أفرج عنه قبل عدة سنوات، وبات اليوم من أبرز منظري الجماعات المتطرفة الساعية لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعوم على أنقاضه.
يقول أبو زنيد لـ"العربي الجديد": "في ساعة متأخرة من الليل، كنت في دورية مناوبة بالقرب من باب الرحمة، حيث تناهت إلى سمعي أصوات غريبة قادمة من سور المقبرة الواقعة هناك، فتوجهت إلى مصدر الصوت، وإذا بأحد المستوطنين يتسلق الجدار الشرقي، ومعه عدة حقائب، عندئذ صرخت به، وناديت حراسا آخرين، ورأيناه يعود أدراجه عن السلم مسرعا تاركا وراءه حقائب عثر في داخلها على متفجرات وصواعق، وحضرت في أعقاب ذلك قوات كبيرة من جنود الاحتلال وطوقت المنطقة، وأعلن عن اعتقاله لاحقا مع مجموعة أخرى من المتطرفين، كانت اتهمت أيضا بالاعتداء على رؤساء بلديات في الضفة الغربية".
أبو زنيد، أيضا كان واحدا من جرحى انتفاضة الأقصى الأولى والثانية، وكان أصيب بعد الاعتداء عليه، خلال تصديه لجنود الاحتلال الذين لاحقوا المصلين إلى ساحة الصخرة المشرفة وحاولوا اقتحام مسجد الصخرة بعد اقتحام شارون للمسجد الأقصى في العام 2000، إلا أنه تصدى لهم فتعرض للضرب هو وحارس آخر يدعى خالد السيوري.
في حين كان هدم الاحتلال لتلة المغاربة في عام 2007، وهي التلة التاريخية التي تربط المسجد الأٌقصى بساحة البراق، محطة أخرى من المحطات البارزة في الاعتداء على المسجد الأقصى، حيث اندلعت في محيطه مواجهات عنيفة، وتقرر آنذاك إبعاد الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948 عن القدس والمسجد الأقصى لشهور، تجددت لاحقا أكثر من مرة.
وبالرغم من الاحتجاجات الفلسطينية آنذاك، إلا أن سلطات الاحتلال هدمت الجزء الأكبر من التلة، وأقامت عوضا عن ذلك جسرا خشبيا، كان مسؤولون مقدسيون وصفوه بأنه جسر عسكري يمكن لآليات الاحتلال العسكرية الصعود من خلاله إلى باحات الأقصى، إضافة إلى ما جرى أسفله من حفريات وتوسيع لساحة البراق، وبناء كنيس يهودي ومتوضأ للنساء هناك.
يقول جمال عمرو الخبير المختص بشؤون القدس والمقدسات، إنه مع مرور الذكرى الثامنة والأربعين لجريمة إحراق الأقصى، فالأخطار لا تزال حاضرة، وهبّة الأقصى الأخيرة بكل ما حققته، لم تمنع تغول الاحتلال ومستوطنيه لاحقا ضد المسجد الأقصى.
وأشار عمرو إلى أنه في غضون العام المنصرم لوحده سجل اقتحام أكثر من 14 ألف مستوطن، في حين ارتفع عدد المقتحمين منذ مطلع العام الجاري وحتى أغسطس/ آب الجاري من هذا العام، ووصل إلى أكثر من عشرين ألفا، وقد يصل حتى نهاية هذا العام إلى أكثر من ثلاثين ألفا باعتراف جماعة "الهيكل".
وجماعة "الهيكل" هي منظمة يهودية متطرفة تقود الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، وبات حضورها واسعا لدى قطاعات جديدة في مجتمع دولة الاحتلال سواء في صفوف المستوطنين، أو طلبة الجامعات، وحتى في المؤسسة الرسمية بدءا بالحكومة وأجهزة الأمن والجيش المختلفة، وبتنا نشهد اقتحامات لجنود بلباسهم العسكري وبأسلحتهم، يوضح عمرو.
وكما يقول عمرو، في حديث لـ"العربي الجديد"، فإن فتيل النار الذي أشعل به اليهودي الأسترالي مايكل روهان في المسجد الأقصى لا يزال وبعد مرور ثمانية وأربعين عاما على جريمة إحراق المسجد مشتعلا، وينذر بأخطار شديدة جدا تهدد وجود المسجد الأقصى.
ووفق المعلومات المتوفرة، فإن روهان وصل إلى فلسطين المحتلة في مارس/آذار من العام 1969، بجواز سفر أسترالي وانضم إلى أحد الكيبوتسات الزراعية وتعلم العبرية هناك، فيما انتقل روهان في العشرين من يوليو/تموز من العام 1969 للعيش في القدس.
حاول روهان إحراق الأقصى مرتين، أولاهما باءت بالفشل إلى أن نجح إحراقه في الحادي والعشرين من أغسطس/ آب من عام 1969، بعدما دخل المسجد كسائح أجنبي، ومن ثم تمكن من الفرار، واعتقل بعدها بيومين من قبل قوات الاحتلال، التي رفضت محاكمته بادعاء أنه يعاني مشاكل نفسية في عام 1974 وإدخاله للمستشفى، وبعد ضغوطات من عائلته، عاد روهان إلى أستراليا، وهناك توفي في العام 1995.