بعد مرور أيام على بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، والذي كان دخل حيز التنفيذ ليل الخميس - الجمعة، بات المشهد الميداني في البلاد أكثر وضوحاً، إذ تشير تحركات قوات نظام بشار الأسد بريف دمشق، إلى أن الأخير وداعميه يسابقون الزمن لتحقيق خرق في مناطق سيطرة المعارضة بوادي بردى والغوطة الشرقية، لاستثماره سياسياً ضمن مفاوضات أستانة التي من المفترض أن تنعقد أواخر هذا الشهر. ودخلت الهدنة، فجر اليوم الثلاثاء، يومها الخامس، من دون أن يتغير المشهد الميداني خلال الأربعة أيام المنقضية، إذ واصلت قوات النظام خروقاتها، والتي تركزت منذ اليوم الأول في جبهات القتال مع المعارضة في ريف دمشق تحديداً. صحيح أن مناطق تسيطر عليها المعارضة في شمال البلاد ووسطها، شهدت خروقات عدة أيضاً منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، وتمثلت بقصف مدفعي وأحياناً جوي، لكن الصورة في ريف دمشق بدت مُغايرة كون عمليات النظام وحلفائه هناك، فاقت مجرد وصفها بـ"انتهاكات" للاتفاق، كون القصف الجوي والمدفعي استمر بوتيرته المعتادة منذ ما قبل سريان الهدنة.
وتزامن ذلك مع محاولات تقدم جديدة للقوات البرية المهاجمة نحو مناطق نفوذ المعارضة بمحيط مناطق عين الفيجة والحسينية والضهرة. وفي المقابل، أكدت المعارضة السورية المسلحة أن الهجمات التي شنتها قوات النظام ومليشيات حزب الله اللبناني، في الأيام الماضية، فشلت بإحداث أي خرق على جبهات القتال هناك. لكن وسائل إعلام النظام الرسمية التي تسرد يوميات ما تسميها "إنجازات الجيش" على مختلف الجبهات، لم تغط خلال الأيام القليلة الماضية، الهجمات التي تشنها هذه القوات في وادي بردى. وذكرت وسائل إعلام موالية، لكنها غير رسمية، أن استمرار العمليات العسكرية بمناطق وادي بردى يأتي لكون هذه المنطقة مستثناة من اتفاق وفق إطلاق النار، وفق تفسيرها. والذريعة المقدمة في هذا الصدد، تتمثل في أن هذه المنطقة تضم جيوباً لعناصر من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) و"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً).
لكن المعارضة السورية، وفي بيان صادر عن "الفصائل العسكرية الثورية" التابعة لـ"الجيش السوري الحر"، في وادي بردى، نفت هذه الادعاءات، مؤكدة "عدم وجود أي مقرات لتنظيم فتح الشام أو داعش ضمن المنطقة، وأن كل المقاتلين الموجودين فيها ينتمون لفصائل عسكرية ثورية تابعة للقيادة الموحدة للجيش السوري الحر، أو هم من أبناء المنطقة الذين سارعوا لحمل السلاح دفاعاً عن أرضهم وعرضهم". والبيان الصادر فجر أمس الإثنين، بهدف دحض "كذبة النظام لتبرير قصفه" في وادي بردى، ذكَّر بأن "الفصائل (الموجودة حالياً هناك) قامت بتاريخ 13 يناير/ كانون الثاني 2016 بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي الذي كان موجوداً في جرود المنطقة وطردته منها بشكل نهائي، بعد تدمير مقراته وقتل وتشريد عناصره". وطالب البيان "الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار بتحمل مسؤولياتها والضغط على النظام والمليشيات الموالية له، لوقف هذا الخرق الواضح". وأبدت الفصائل العسكرية حرصها، بحسب البيان، "على حياة المدنيين في العاصمة دمشق"، كما طالبت بضرورة "إدخال (فرق) الصيانة في مؤسسة مياه عين الفيجة (المصدر الرئيسي لمياه الشرب في دمشق)"، متعهدة بـ"ضمان سلامتها من قبل الفصائل الموجودة ضمن المنطقة، وحماية المدنيين من قصف النظام لمنطقة وادي بردى".
غير أن المعارضة السورية المسلحة بوادي بردى، أعلنت أنه "وفي حال عدم تجاوب الأطراف الضامنة لتنفيذ الاتفاق"، فإنها ستطالب "كل الفصائل العسكرية الحرة، العاملة في الداخل السوري، بنقض الاتفاق وإشعال الجبهات، دفاعاً عن أهلهم في وادي بردى". وليس بعيداً عن وادي بردى، شمال غربي دمشق، التي يعيش ملايين السكان فيها منذ نحو أسبوعين على مصادر احتياطية للمياه، بعيد توقف محطة عين الفيجة عن الخدمة، واصلت قوات النظام حملاتها العسكرية بغوطة دمشق الشرقية خلال الأيام الأربعة الماضية. ويسعى النظام لإحراز تقدم هناك، الأمر الذي دفع "المجلس المحلي في منطقة المرج" لإصدار بيانٍ للمطالبة بـ"إرسال مراقبين دوليين لضبط وقف إطلاق النار". وجاء في البيان أن حملات النظام العسكرية تواصلت في المرج "حتى بعد إصدار قرار وقف إطلاق النار الذي تبناه مجلس الأمن بتاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول 2016، إذ إنه لم يتغير شيء على الأرض من جهة النظام ولا تزال هجمات النظام ومليشياته الأجنبية مستمرة حتى اللحظة، على قرى وبلدات المرج وحققت تقدماً برياً على مواقع تحت سيطرة الثوار، مستغلة في ذلك التزام الفصائل الثورية المقاتلة في الغوطة الشرقية باتفاق الهدنة المُعلن".
وكان واضحاً منذ بداية المفاوضات التي أفضت لإقرار وقف إطلاق النار، أن محور النظام أراد استبعاد مناطق سيطرة المعارضة السورية بريف دمشق تحديداً من الاتفاق، ليواصل حملته العسكرية الرامية لـ"تأمين" حزام العاصمة، قبل التوصل لأي اتفاق سياسي مُحتمل. لكن ضغوط المفاوضين باسم المعارضة المسلحة، نجحت بأن يكون الاتفاق شاملاً لكافة الأراضي التي توجد فيها فصائل تابعة للمعارضة، بما فيها مناطق ريف دمشق. غير أن استمرار حملات النظام العسكرية بمناطق ريف دمشق، على الرغم من الهدنة، التي من المفترض أن تتبعها مفاوضات سياسية خلال شهر، يشير بوضوح إلى أن الطرف الروسي الضامن للنظام في الاتفاق مع تركيا، وإن بدا حريصاً في بعض الأحيان على عدم انهيار الاتفاق، إلا أنه يغض الطرف عن هجمات حلفائه في ريف دمشق. وسبب ذلك يتمثل في أن موسكو تأمل في حصول تقدم ميداني هناك، لتحقيق هدف إنهاء وجود المعارضة قرب دمشق، وهو ما يُمكن استثماره لاحقاً من قبل محور النظام خلال مفاوضات أستانة المرتقبة.
صحيح أن أعضاء مجلس الأمن يجمعون على ضرورة صمود اتفاقية وقف إطلاق النار لتهيئة ظروف ملائمة تُمهد طريق بدء مفاوضات أستانة هذا الشهر، ثم الذهاب الشهر المقبل إلى المفاوضات الرسمية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، لكن غابت خلال اليومين الماضيين، ردود الفعل الدولية الواضحة بشأن خروقات النظام للهدنة، باستثناء دعوة باريس، أمس، لضرورة أن تتوقف الأعمال العسكرية في سورية، احتراماً للاتفاقية الروسية - التركية. وهذه الدعوة الفرنسية أتت على لسان رئيس الوزراء، برنار كازنوف، الذي دان "كل ما يمكن أن تقوم به روسيا في سورية ويكون من شأنه الإسهام في استمرار القتال"، مطالباً موسكو بـ"الكف عن المشاركة في العمليات العسكرية وهي عمليات قاتلة"، لكنه أبدى في الوقت نفسه أمله بأن "تستمر المحادثات بين القوى السورية حتى يصمد وقف إطلاق النار".