في شارع الحبيب بورقيبة، شارع الثورة التي قادت إلى ولادة الجمهورية الديمقراطية التونسية، حيث التقت مسيرات من كل أزقته في يوم واحد تطالب بالحرية والكرامة، خرجت أول من أمس تظاهرة تعارض قانون المصالحة الذي طرحه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي. وقبلها بساعات، انتصبت في ذات الشارع خيمة "ميّة وملح" تذكّر التونسيين بمعاناة إخوانهم في فلسطين، وتتقاسم معهم طعم الجوع والنضال ضد أعتى وأجبن جيوش العالم.
وتحمل المفارقة التي جمعت همّين في الوقت ذاته فكرة أصيلة تناولها آباؤنا منذ عقود، وتقود إلى استنتاج منطقي لم يتغيّر، وهو أن الوجع العربي الأكبر، فلسطين، يكمن دواؤه فينا وعبرنا، بمعنى أن حلحلة الوضع هناك تمر أولاً عبر تغيير الوضع هنا. ويذكر الفلسطينيون والتونسيون، وغيرهم من العرب، كيف تحرك الهاجس الفلسطيني بشكل لافت مع بدايات الربيع العربي، وكيف تفاعل المتحررون هنا مع غزّة وأهلها المحاصرين، وهي حقيقة تدركها المؤسسة الصهيونية العالمية. ولذلك كان أول سؤال تبادر إلى الأذهان مع بداية البحث العربي الشعبي التلقائي عن طريق الديمقراطية، هو هل سيسمح لنا المحتل فعلاً بأن نلج إلى حديقة الشعوب الديمقراطية؟
وبعيداً عن منطق المؤامرة، لأن الشعوب تمتلك دائماً وأبداً مصيرها بيديها، فإن ما يحدث اليوم من انتكاسات عربية داخلية يأتي ليعطل أولاً وبالذات أي انتباه ممكن لما يحدث هناك، إذ تتوجه الأنظار برغم كل الهموم الداخلية، لتنغمس أكثر في تفاصيل الشأن الوطني، ويُغتال الأمر الفلسطيني في غفلة من عرب غافلين بطبيعتهم. ليبقى الأمر كما هو دائماً، والمشهد على ما هو عليه، انقسام فلسطيني داخلي ونخبة سياسية عربية تلهيها ذات الأسئلة منذ الستينيات، وشعوب تلهث وراء كسرة خبز تزداد مرارة يوماً بعد يوم، وأملها الوحيد أن يعبر شعب واحد نحو الحرية لتفتح الأبواب أمام الآخرين. لذلك كانت خيمة السبت في تونس اختباراً حقيقياً لعدم النسيان، ولكن نؤجل إلى أن نحسم هذا الأمر أولاً. ولذلك أيضاً ينحصر كل الرهان على تونس وتجربتها بما تعنيه من آمال قد تفتحها، أو لا قدّر الله لفشل قد يقضي علينا لدهور كاملة.