لم تحصر روسيا دورها إبان انخراطها المباشر بالملف السوري، قبل سنتين، بالعمليات العسكرية وإدارة المعارك، والتفاهمات السياسية مع الخصوم والحلفاء، مع سعيها لبلورة حل سياسي شامل، يخدم تطلعاتها المستقبلية بعيدة المدى في هذا البلد، إذ تعمل على التوغل في أدق تفاصيل إدارة مناطق المعارضة، التي دخلت ضمن مناطق "خفض التصعيد". كما وتبحث في تفاصيل إدارة المناطق الخاضعة لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) مستقبلياً، وطبيعة علاقتها بدمشق. لذا فإن نشاطات مركز قيادتها في الساحل السوري (قاعدة حميميم) أخذت بالتوسع منذ أشهر، عبر فتح المركز قنوات اتصال مع سائر القوى على الأرض، بما فيها المجالس المحلية. وتجلى ذلك خصوصاً، غداة ترجيحها كفة النظام والمجموعات الأخرى التي تقاتل معه عسكرياً، على حساب "قوى الثورة والمعارضة" عموماً، في شرقي حلب وجنوب البلاد وغير ذلك.
وبعد وضع أغلب المعارك أوزارها في مناطق المعارضة السورية، عبر اتفاقيات أستانة، التي جمدت جبهات القتال بين محور النظام وفصائل المعارضة، عبر صيغة مناطق "خفض التصعيد"، تبدي موسكو استعجالاً لتحقيق مقاربتها في شكل إدارة ومستقبل هذه المناطق، بما يتوافق مع تطلعاتها ويكون مقبولاً من شركائها (دمشق وطهران)، ففتحت "قاعدة حميميم" قنوات اتصال مع مجالس محلية في مناطق سيطرة المعارضة السورية، في محاولة تهدف، على ما يبدو، للهيمنة على هذه المجالس المدنية، بعد أن نجحت تقريباً بتطويعِ عدد من القوى العسكرية. وتنظر روسيا إلى هذه المجالس على أنها ما زالت ورقة مؤثرة بيد "قوى الثورة والمعارضة"، وهي تدرك أهمية دور هذه المجالس مستقبلاً في تحقيق الأمن المجتمعي، وإدارة المناطق وغير ذلك. ويبلغ عددها بحسب الباحث السوري المختص بشؤون المجالس المحلية، أيمن الدسوقي، 393 مجلساً محلياً قائماً حالياً في مناطق نفوذ المعارضة السورية، وما بين 70 و80 مجلساً مُهجراً في مناطق النزوح، كمجالس ضواحي دمشق (وغيرها)، التي أخضعها النظام لسيطرته خلال الأشهر القليلة الماضية.
ويؤكد الباحث السوري، خلال حديث لـ"العربي الجديد"، أن موسكو، وعبر مركز قيادتها في سورية، "تحاول فعلاً ضمن اتفاقيات خفض التصعيد بناء صلات داخل المجالس المحلية، وفتحت قنوات تواصل مع مجالس محلية عديدة في ريف حمص الشمالي وريف دمشق ودرعا"، معتبراً أن الجانب الروسي لديه توجه لـ"السيطرة على هذه المجالس وإضعاف دورها شيئاً فشيئاً، عبر مبادرات مفخخة، يقدمها كبالونات اختبار، ويتم تطوير خطتهم للمرحلة المقبلة". ويرى الدسوقي أن خطورة هذه التحركات الروسية، تكمن في "أنها تطمح لسحب ورقة هذه المجالس من قوى الثورة والمعارضة، وتجييرها للنفوذ الروسي، على اعتبار أن روسيا تنظر لهذه المجالس أيضاً على أنها صنيعة العواصم الغربية التي شجعت قيامها ودعمتها، ولذلك هناك ما يمكن اعتباره سباق روسي-غربي للسيطرة على هذا الملف الحيوي"، مضيفاً أن "سحب روسيا هذا الملف (المجالس المحلية) من الأوروبيين سيؤثر حتماً على ملف إعادة الإعمار في المستقبل". ويرى أن "روسيا لديها أوراق ضغط على المجالس المحلية في مناطق عدة، تُمكنها بالترغيب والترهيب من تطويعها، إن كان بالضغوط الأمنية من قصف وخلافه، أو ابتزازها بالملفات الخدمية وإدخال المساعدات الإغاثية للمناطق المحاصرة وما شابه"، معرباً عن اعتقاده أن "المحاولات الروسية لبسط هيمنتها على مجالس محلية في مناطق مختلفة، قد تنجح في أن تلقى تفاعلاً إيجابياً من بعض هذه المجالس، نتيجة الضغوط الأمنية والخدمية التي تنتهجها روسيا". ويرى الباحث السوري أن روسيا تستثمر وضع المجالس المحلية حالياً "وهو ضعيف ومُشتت، لا مظلة جامعة تجعل لها قراراً موحداً"، معتبراً أن "إيجاد مظلة توحد قرار هذه المجالس سيجعل منها كتلة قوية ومؤثرة"، داعياً إلى "تفعيل مبادرة المجلس الأعلى لمجالس الإدارات المحلية، وهي مبادرة كانت طُرحت قبل نحو عام ونصف العام".
إلى ذلك، رشحت معلومات عن مساعي "قاعدة حميميم" لعقد مؤتمر يجمع مختلف القوى السورية، نهاية أكتوبر/تشرين الأول الحالي، قد يضم جماعات معارضة من التي فضلت سلوك طريق "المصالحات"، وقوى أخرى من المجالس المحلية في مناطق "خفض التصعيد"، وممثلين عن دمشق، للتشاور في ملفات تتعلق بالدستور وتجميد جبهات القتال. وتريد موسكو أن تبني على هذا المؤتمر، إن حدث، كنقطة ارتكاز تطورها في طريق تنفيذ رؤيتها لتسوية سورية شاملة، ولكن ذلك يصطدم بكل تأكيد بمعوقات كثيرة، إذ لا يتوقع أن تستجيب له قوى كثيرة في المعارضة السورية، كما أنه سيلقى رفضاً من عواصم غربية. وتواصلت "العربي الجديد" مع مسؤولين بارزين في مجالس محلية وازنة شمال وغرب سورية، للوقوف على حقيقة إن تم توجيه دعوات روسية لهم، للمشاركة في هكذا اجتماع. ونفت كافة المصادر التي تم التواصل معها أنها تلقت دعوة بهذا الخصوص، ومنهم رئيس المجلس المحلي في مدينة إدلب، إسماعيل عنداني، وكذلك نائب رئيس المجلس المحلي في محافظة درعا، عمار البطين، الذي يؤكد أنه "لم يتواصل معنا الروس ولم يتم دعوة أي مجلس (في درعا) لمثل هكذا اجتماع"، مؤكداً رفضهم أي توجه كهذا بقوله "حتى لو دعينا، فإنه ليس من الوارد عندنا مفاوضة الروس، لدينا مظلة دولية للحل لا نرضى أن تكون مظلة روسية، لأن الروس هم قتلة مجرمون ساهموا مع بشار الأسد في تدمير البلاد وتهجير سكانها".
ويقول الباحث السوري المختص في شؤون المجالس المحلية، أيمن الدسوقي، الذي له تواصل مع عدد كبير من هذه المجالس، إن "الطرح الروسي لاجتماع حميميم غير واضح ولم تتبلور صورته بعد، وهو بمثابة بالون اختبار لدرجة الاستجابة له من مختلف القوى، وتبني روسيا عليه، أياً كانت نتائجه، تصورات تستند إليها في تحركات مستقبلية"، متوقعاً أنه وفي حال وجهت الدعوة لمجالس محلية "سيوافق قسم منهم على الحضور، ويرفض القسم الأكبر". ويدور سؤال حول نوايا روسيا الفعلية لمستقبل مناطق "خفض التصعيد"، وما إذا كانت تتجه لتفعيل دور المجالس المحلية وفق رؤيتها وبإشرافها، أم تسعى لإضعافها شيئاً فشيئاً وسحب هذه الورقة من يد المعارضة؟ ويوضح الدسوقي أن "هذا مرتبط بالمقاربة الروسية للحل السوري، وهي تثبيت النظام ومؤسسات الدولة، مع إعطاء دور للمجالس المحلية في مناطق خفض التصعيد، وهو ما تحدثت عنه في الدستور الذي اقترحته، وأشارت فيه لما سمته جمعية المناطق التي تتوافق مع توجهات الأكراد، والمجالس المحلية عموماً. لكن هذه المقاربة مختلفة عن مقاربة طهران ودمشق لهذا الطرح، فالنظام لا يوافق على ذلك، وهو يعمل على سياسة النفس الطويل كونه يعتبر نفسه باقياً وموجوداً على الأرض، وسيبسط نفوذه في مناطق المجالس المحلية". وتدرك روسيا، وفق الباحث، هذه الإشكالية المتعلقة بالمجالس المحلية في مناطق المعارضة خصوصاً، لذا فإنها تعمل غالباً "لتجييرها لتكون مستقبلاً جزءاً من مؤسسات النظام".