وقبل ماكرون، عُرف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بقربه الشديد من فريق العاصمة "باري سان جيرمان"، وحضوره لمباريات المنتخب الوطني. كما أن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، قادرٌ على الدخول في تفاصيل عن كرة القدم لا يعرفها إلا الصحافيون الرياضيون المتمكنون، ولا يزال مشتركاً بصحف رياضية ورقية عديدة، رغم سطوة الرقمية واكتساحها. وطبعاً الرئيس الأسبق جاك شيراك، الذي منحه انتصار فرنسا، سنة 1998 بكأس العالم، للمرة الأولى في تاريخ فرنسا، شعبية عارمة، لا تزال إلى الآن، رغم غياب شيراك بسبب مرضه المزمن.
وكم كانت جميلة رؤية جاك شيراك وهو يصدح بأسماء لاعبي المنتخب، القادمين من أعراق وألوان وثقافات مختلفة. هو سحر كرة القدم، السحر، أو الفتنة التي لم تفعلها أي رياضة سواها.
ولن يشذّ الرئيس الفرنسي الحالي عن هذه القاعدة، خصوصاً أنها، هذه المرة، تأتي مباشرة بعد عامٍ من وصوله إلى قصر الإليزيه، أي بعد عام من نجاحه في فرض إصلاحات عنيفة وغير شعبية، ولكن أيضاً بعد ظُهور تذمّر شعبي كبير تعبر عنه مختلف استطلاعات الرأي الأخيرة.
أيّ هدية هذه؟ وأي معجزة هذه، التي نجح فيها مدربّ المنتخب الفرنسي ديدييه ديشان، في إيصال لاعبيه إلى النهائي، وربما إلى الفوز؟ خرج ديشان عن أطواره ورصانته، وصرّح ليعرف الخصمان المحتمَلان، كرواتيا أو بريطانيا العظمى، بأنه لا يريد بديلاً عن الفوز، بعدما كان يُمنّي النفس بالوصول فقط إلى ربع النهائي، حتى يَضمن استمرار تعاقده إلى سنة 2020، أي إلى بطولة أوروبا للأمم.
أما ماكرون، وفي ندوة صحافية له، وكان حينها في موسكو لزيارة فلاديمير بوتين، فأكّد أنه سيعود إلى روسيا في حال تأهل فريقه، ولم يكن يتصور أنه سيعود مرتين، لا مرة واحدة.
وأمس، الثلاثاء، كان ماكرون سعيداً وهو يرى كيف استطاع فريقه الوطني سرقة النصر في الشوط الأول، وكيف عرف اللاعبون الاحتفاظ به رغم هجمات "الشياطين الحمر" الهوميرية، لأن الأمور بـ"عواقبها"، أي بنهاياتها. والنهاية موجودة، وهي أن تلعب فرنسا "الماتش" النهائي وتفوز، وتنسي الفرنسيين الهزيمة أمام إيطاليا، حين نطح زين الدين زيدان خصمه الإيطالي المستفز.
كان الرئيس ماكرون منفعلاً، وهي حالة رئيسة كرواتيا نفسها أيضاً، حين سجّل فريقه الإصابة في المرمى البلجيكي. وهو لم يُخف غبطته و"برَكَتَه"، الكلمة العربية التي استعارتها صحيفة "لوباريزيان" لتوصيف مسار الفريق الفرنسي في "المونديال".
كان الرئيس الفرنسي سعيداً ومنتشياً. كيف لا، وقد جاءت هذه الإنجازات الكروية قبل 14 يوليو/تموز، العيد الوطني الفرنسي؟ كما أن التقديرات والتخمينات تمنح فرنسا الكأس الثانية، بعد كأس 1998، أي الثانية بعد عقدين من الزمن والانتظار، وهو ما سيكون عيداً "وطنياً" آخَر.
عيداً وطنياً، لأن الطبقة السياسية الفرنسية كلها، من يمينها المتطرف إلى يسارها المتطرف، مروراً بالوَسَط، تتماهى مع فرحة الشعب العارمة، في كل مكان من فرنسا، من الشانزيلزيه إلى البلدات الريفية الصغيرة، تتماهى مع الشعب الذي قدّم، أمس، وبعد "الإنجاز" الكبير على بلجيكا، بروفة لما سيكون يوم 15 يوليو/ تموز، في حال الفوز.
ويستطيع ماكرون أن يوظف "إنجاز" الأحد المقبل، 15 يوليو/تموز، إن تحقق، - هو الانجاز الذي كان يوم أمس "بروفة" مصغرة له - بصيغة ما، لإزالة الاحتقان الشعبي، ولو إلى حين.
صحيح أن الظروف الحالية ليست هي الظروف ذاتها خلال حكم شيراك وإنجاز 1998 الكروي، كما يجمع المعلقون السياسيون، ولكن الرئيس الفرنسي محتاجٌ، ولو إلى برهة من الوقت، ألا يسمع أي شكوى أو تذمر فرنسي. وهذا الإنجاز الكروي، كما كتب المثقف الفرنسي الشهير برنار بيفو في تغريدته: "لا يتمثل في حشد الحشود، ولكن في كون هذه المواكب الرهيبة، وبعيداً عن أن تصرخ غاضبة، تغني وترقص من الفرح".
الفرح هو الذي رقّص ماكرون أمس في المنصة الرئاسية، وهو الذي أغراه باصطحاب زوجته بريجيت إلى روسيا، يوم الأحد المقبل، لمشاهدة المباراة النهائية.
إجماع في فرنسا على حب الفريق و"نصرته"، ولو بالدعاء. إجماعٌ لا يشذ عنه الفرنسيون من أصول عربية، رغم معاملة المدرب ديدييه ديشان الجافة لكريم بنزيما. المنتخب الفرنسي أكثر تمثيلا للتعددية في فرنسا، فهو يضم أغلبية سوداء، وللعرب نصيبٌ، ثلاثة لاعبين، لعلّ واحداً منهم من أفضل اللاعبين في العالَم، كيليان إمبابي (من أم جزائرية).
وأثناء المباريات، وبعد أسابيع قليلة فقط من الإنجاز، تظهر فرنسا بمظهر الأمّة الواحدة المتآلفة، لكن سرعان ما تعود الأمور إلى عادتها: ترتفع مستويات العنصرية ويكتشف الفرنسيون الثَملون، بعد بعض الوقت، من الفوز، أن البطالة لا تزال مرتفعةً، وأن القدرة الشرائية لم تتحسن، وأن تضحيات أخرى تنتظرهم، وأن الكرة لم تغيّر، في حقيقة الأمر، من حيواتهم اليومية.
ويكتشف الجميع أن كرة القدم ليست، فقط، سلاحاً في أيدي الطغاة، بل ويعرف الديمقراطيون، أيضاً، استخدامها عند اللزوم.