وهذه ليست المرة الأولى التي تبرز فيها محاولات لإسقاط اتفاق الصخيرات، إذ فوجئت الرباط في يناير/كانون الثاني الماضي بتغييبها عن مؤتمر برلين حول ليبيا، على الرغم من أن المسؤولين المغاربة كانوا ينتظرون دعوتهم للمشاركة، مبررين ذلك باحتضان بلدهم مؤتمر الصخيرات الذي أفضى لاتفاق أوقف الاقتتال في ليبيا مدة من الزمن. وبات موقع المغرب من المعادلة الليبية محل نقاش في ظل رغبة قوى دولية في إسقاط اتفاق الصخيرات، كإطار توافق ليبي-ليبي برعاية الأمم المتحدة، وفتح الباب عبر ندوة برلين على تدويل الأزمة الليبية وتدخل خارجي بحجة مراقبة إدخال الأسلحة.
وعلى امتداد الأشهر الماضية عملت الدبلوماسية المغربية جاهدة للعودة للعب دور الوساطة بين الأطراف الليبية المتصارعة، والتقريب بين وجهات نظرها، وهو ما تجلى في مباشرة وزير الخارجية ناصر بوريطة، في فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين، مباحثات رسمية وأخرى عبر الهاتف، مع طرفي النزاع الرئيسيين في ليبيا، حكومة الوفاق ومعسكر حفتر. ومكّن التحرك الدبلوماسي المغربي من تجاوز عثرة إقصاء الرباط من المشاركة في مؤتمر برلين، ومحاولات تحجيم دورها إقليمياً، فيما حالت الأزمة التي فرضها تفشي فيروس كورونا في العالم دون استكمال مساعي التحضير لمبادرة جديدة لحل النزاع في ليبيا من خلال إيجاد نسخة منقحة من اتفاق الصخيرات. ويعتبر المغرب الاتفاق السياسي، الذي وُقّع في 2015 بإشراف المبعوث الأممي إلى ليبيا حينها مارتن كوبلر، لإنهاء الحرب الليبية، إنجازاً تاريخياً مهماً، يحسب لدبلوماسيته ولقدرته على المحافظة على قنوات تواصل فاعلة مع كل أطراف الصراع الليبي. وترى الرباط أنها "لا تزال مرجعاً مرناً بما يكفي لإدراك الوقائع الجديدة"، وأن "تكاثر المبادرات حول الأزمة يؤدي إلى تنافر بينها".
مدير مركز الدراسات الدولية حول إدارة الأزمات في جامعة القاضي عياض بمراكش، إدريس لكريني، يرى أن اتفاق الصخيرات جهد دبلوماسي لا يمكن إنكاره أو تجاوزه كيفما كانت المبادرات اللاحقة، على اعتبار أنه حتى الساعة يُعدّ الاتفاق الوحيد الذي حظي باعتراف أممي وتثمين دولي، كما أنه يشكل الأرضية المناسبة لسلام مستدام في ليبيا من دون المساس بوحدتها وسيادتها. ويعتبر أنه من الاتفاقيات التي شهدت الأمم المتحدة بنفسها على نجاعتها وأهميتها، كخريطة طريق لدعم الحل السياسي، ولا سيما أنه كان قد خلق حالة من الارتياح في أوساط عدد من الفرقاء وداخل المجتمع الليبي.
ويقول لكريني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن اتفاق الصخيرات حظي بدعم الأمم المتحدة، لأنه ينطلق من وحدة الجسم الليبي ويستحضر الفاعل الليبي في معالجة الملف، كما يركز على بناء المؤسسات ومسايرة الحل السياسي. ويضيف: "أكاد أجزم أن أهم مشروع قُدّم في سياق تسوية الملف الليبي هو اتفاق الصخيرات، وكل ما جاء بعده هو عبارة عن أجندات إقليمية ودولية باتت واضحة للعيان. ولعل ما جرى في مؤتمر برلين كان واضحاً جداً، إذ لم يكن حضور بعض الأطراف بدافع الدفاع عن استقرار ليبيا وبناء المؤسسات بقدر ما كان يتعلق بمحاولة الحصول على جزء من الكعكة الليبية".
وبحسب لكريني فإن الدور المغربي ما زال مطلوباً لدعم الاستقرار في ليبيا، بفضل عدم اصطفافه مع طرف ضد آخر، خلافاً لأطراف إقليمية ودولية لا تخفي تموضعها مع طرف في مواجهة آخر، لافتا إلى أن ليبيا اليوم في حاجة إلى مبادرات بناءة تسمح بإيقاف الأعمال العسكرية، وإتاحة المجال أمام الفرقاء للحوار ودفعهم إلى احترام مخرجات الاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات، وهو ما يمكن أن يوفره المغرب، بالنظر إلى الثقة التي يحظى بها لدى مختلف الأطراف واستحضاره لوحدة الأراضي الليبية.
من جهته، يرى الباحث في العلاقات الدولية خالد يايموت، أن المبادرة المصرية لحل النزاع الليبي تدخل في سياق إعادة تموضع القاهرة داخل التحالفات الموجودة حالياً، لا سيما بعد نجاح تركيا في نسج تحالف مع الولايات المتحدة، وإلى حد ما مع روسيا، وكذلك الشرخ الذي حدث في المحور المصري الإماراتي السعودي الفرنسي. ويلفت إلى أن التحولات العميقة التي طرأت على التحالفات جعلت مصر تجد نفسها محشورة في زاوية ضيقة، لذلك تحاول الآن من خلال مبادرتها السياسية إعادة التموضع. ويعتبر يايموت، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المبادرة المصرية جاءت متأخرة، ولن تنتج أي أثر على المستوى الدولي ما لم تتبنّها فرنسا بشكل مباشر، مشيراً إلى أنه على الرغم من طرح "إعلان القاهرة" كمبادرة سياسية لحل الملف الليبي، فإن اتفاق الصخيرات سيبقى صامداً، مع إمكانية التوصل إلى "اتفاق الصخيرات 2" كنتيجة نهائية للتوافقات بين الأطراف الدولية والإقليمية، وكذلك لما يمتلكه من امتدادات على مستوى النخب، التي هي طرف رئيسي في النزاع، سواء في الشرق أو الغرب الليبي.