تراجع رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، عن الاستقالة التي أعلنها، الشهر الماضي، من العاصمة السعودية الرياض، وذلك مقابل تجديد مجلس الوزراء، وكل القوى المُمثلة فيه، "التزام النأي بالنفس"، في تكرار لتجارب سابقة غاب فيها الضامن وغابت إرادة "حزب الله" عن التزام الإجماع المحلي.
ولم تكن المصافحة التي جمعت سعد الحريري بالسفير الإيراني في بيروت، محمد فتح علي، يوم عيد الاستقلال في 22 من الشهر الماضي، عابرة أو استثنائية في مسار التراجع السعودي عن تصعيد الموقف تجاه لبنان، إثر استقالة الحريري، التي أعلنها من الرياض قبل أقل من شهر بقليل. يومها، صافح الحريري يد سفير الدولة التي أراد قطع يدها في المنطقة، بحسب بيان استقالته من الرياض، قبل أن يعود عن قرار الاستقالة، وتكتفي السعودية بالخضة الكبيرة التي أحدثتها في لبنان، وتستجيب لرغبة المجتمع الدولي في الإبقاء على دور لبنان كمُستضيف مُستقر للاجئين السوريين، بدل تحويله إلى جبهة سياسية، وربما أمنية، بين إيران والمملكة.
مهّدت المُصافحة وكثير من الحراك السياسي الداخلي لإقرار صيغة لفظية مُكررة أعادت تثبيت مفاعيل التسوية السياسية التي خاضها الحريري، قبل أكثر من عام، وانتخب فيها حليف "حزب الله" الأهم، ميشال عون، رئيساً للجمهورية مُقابل عودته إلى موقع رئاسة الحكومة. وشكّل تقاطع المصالح الاقتصادية في ملفي الاتصالات والنفط والغاز بين فريقي الحريري وعون عاملاً إضافياً لإقرار التسوية، وتجاوز الخلاف القائم والمُستمر حول دور سلاح "حزب الله" في المنطقة، إثر الاتهامات العربية العديدة التي ساقتها دول خليجية ضده، وتصنيفه "إرهابياً" في جامعة الدول العربية وفي مجلس التعاون الخليجي، على التوالي، بعد اتهامه بإنشاء خلايا أمنية في الكويت، والمشاركة في تدريب الحوثيين في اليمن ومساعدتهم على إطلاق الصواريخ البالستية على الأراضي السعودية، إلى جانب خرق الحزب لكل القرارات الرسمية اللبنانية بـ"النأي بالنفس" عن الصراعات الدائرة في المنطقة.
قدّم الحريري بعد تراجعه عن استقالته، أمس الثلاثاء، بياناً مُقتضباً، ثبّت فيه كل البنود التي خرقها "حزب الله" بالفعل. وأعاد الحريري مثلاً التأكيد على "التزام الحكومة، بكل مكوّناتها، بسياسة النأي بالنفس عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب وعن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظاً على علاقات لبنان مع أشقائه العرب، لا سيما دول الخليج، وعدم التهجم عليها في وسائل الإعلام". وهو ما سبق للحزب أن مارسه خلال فترة الشغور الرئاسي وبعد انطلاقة العهد الرئاسي الجديد، من بوابة "نصرة الشعب اليمني المظلوم" أو "رفض الدعم السعودي للفكر المُتطرف". هاجم "حزب الله" السعودية مراراً. ولم تسلم دولة الكويت، التي تتميز بعلاقاتها المميزة مع الدولة اللبنانية ومع كل اللبنانيين العاملين على أراضيها بمُختلف انتماءاتهم، من محاولة الحزب تأسيس عمل أمني فيها. وفي مقابل الرسالة الرسمية التي سلمها السفير الكويتي في لبنان إلى وزير الخارجية، جبران باسيل، بشأن "تورط عناصر من حزب الله في تشكيل خلية العبدلي الإرهابية في الكويت"، نفى الأمين العام للحزب حسن نصر الله، التهم عن حزبه. واستمر خرق النأي بالنفس في الساحتين السورية والعراقية، وهو ما أدى إلى توتر دبلوماسي مع العراق، بسبب تجاوز "حزب الله" دور السلطات اللبنانية وعقده صفقة تبادل مع مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي الذين كانوا ينتشرون على الحدود الشرقية بين لبنان وسورية، قضت بنقلهم إلى الحدود العراقية – السورية، وهو ما رفضته السلطات العراقية. وبنفس المنطق القائم على خرق الحدود وتجاوز الدول والحكومات، أتى تبرير "حزب الله" لهذه الصفقة، ودفاعه عن القافلة التي منعها التحالف الدولي لمحاربة "داعش" من إكمال طريقها. قال الحزب يومها، إنه ينقل مقاتلي "داعش" من جبهة قاتل فيها إلى جبهة يُقاتل فيها. وهو ما عزز فرضية استخدام الحزب، ومعه إيران، لـ"داعش" كأداة مُتحركة لخدمة مصالحه وأهدافه في سورية.
بند وحيد شدد عليه الحريري في خطاب التراجع عن الاستقالة، وكان التزام الحزب به جلياً في الداخل اللبناني بهدف تعزيز رصيده، وهو "التمسّك باتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني". رفض الحزب، مع كل القوى السياسية المحلية الإجراءات السعودية ضد الحريري، "حفاظاً على موقع ومقام رئاسة الحكومة اللبنانية" الذي تحميه وثيقة الوفاق الوطني. وهو الموقف الذي أضاف إلى رصيد الحزب السياسي، وجعل آل الحريري مُمتنين لموقفه، بعد أن قدم لموقع رئاسة الحكومة (الذي يشغله السنة بحسب التوزيع الطائفي للرئاسات في لبنان) دعماً في عزّ الإضعاف السعودي لهذا الموقع خلال الضغط على الحريري في الرياض ليتلو بيان الاستقالة.
كما برز في هذا الإطار موقف رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي أعاد التأكيد، أمس الثلاثاء، على أن "موقف لبنان كان موقف مواجهة لما حصل مع رئيس الوزراء، وأن وحدة اللبنانيين تبقى الأساس في حماية الاستقرار في البلاد"، وأن "الأوطان لا تُقاس بأحجامها، فهي متساوية في العزة والكرامة، لذلك ينطلق موقفنا من الأزمة من عدم قبولنا أن تمسّ أي سلطة في العالم كرامتنا". ساعد عون على اتخاذ هذا الموقف المُتقدم التفاف معظم القوى السياسية حوله، ومساعدتها على إنجاز صيغة مقتضبة عن البيان الوزاري الذي حازت حكومة الحريري الثقة على أساسه، بهدف طمأنة المجتمع الدولي، وإبقاء ملف سلاح "حزب الله" في إطار البحث الداخلي "طالما لم يُطرح الملف على طاولة الحل الإقليمي" كما عبّرت عدة قوى سياسية خلال الشهر الماضي.
وساهمت مواقف رئيس مجلس النواب، نبيه بري، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، النائب وليد جنبلاط، في تحديد السقفين، الأعلى والأدنى، للموقف اللبناني. وكانت الصيغة التي تلاها الحريري، والتي جمعت بين مواقف بري وجنبلاط، بضرورة "طمأنة الدول العربية" و"عدم طرح سلاح حزب الله على طاولة النقاش في ظل الوضع الحالي". وهو ما تم فعلاً. ورغم المحاولات الشعبية والسياسية والإعلامية لاعتبار كل تطورات أزمة الرياض كأنها لم تكن، ستبقى نتائج المغامرة السعودية في لبنان حاضرة، خصوصاً وأن الحريري أصبح مديناً في السياسة لرئيس الجمهورية ولـ"حزب الله"، كما بات عليه مراجعة قائمة حلفائه بعد الاتهامات التي وجهها فريقه إلى "حزب القوات اللبنانية" وإلى عدد من الشخصيات التي كانت تدور في فلك قوى الرابع عشر من مارس/آذار، كالنائب السابق فارس سعيد، والوزير السابق أشرف ريفي، بالترويج، أمام المراجع السعودية، لخيار استبدال الحريري بشخصية أخرى لقيادة الطائفة السنية في لبنان. واستعجلت القوى السياسية الخروج بموقف موحّد صادر عن موقع رئاسة الحكومة، وبغطاء من رئاستي الجمهورية والنواب، قبيل الاجتماع الذي تعقده "مجموعة الدعم الدولي من أجل لبنان" في باريس، الجمعة المقبل، تحضيراً لمؤتمر "باريس 3" لدعم الاقتصاد اللبناني. اجتماع يجمع كل القوى الإقليمية والدولية التي دعمت الاستقرار اللبناني خلال الأزمة الأخيرة. وهو ما سيُجمّد الاستقرار اللبناني الهش، بانتظار خضة محلية أو إقليمية جديدة تُعيد تفعيل الاشتباك حول سلاح "حزب الله". ولا تبدو الخضة بعيدة مع مواصلة الولايات المُتحدة محاولة فرض حصار مالي شديد على الحزب بالتعاون مع القطاع المصرفي اللبناني.