نجح الرئيس الفرنسي الجديد، إيمانويل ماكرون، في ولوج معترك الساحة الدبلوماسية الدولية في وقت قياسي، ومن دون عثرات، رغم حداثة سنه وقلة خبرته الدبلوماسية، مستفيداً من أجندة دولية مناسبة تزامنت مع فوزه بالرئاسة. فبعد أيام قليلة على وصوله إلى سدة الرئاسة، تمكن ماكرون من الظهور إلى جانب كبار قادة وزعماء العالم في بروكسل، خلال مشاركته، الخميس الماضي، في اجتماع حلف شمال الأطلسي. وواصل احتكاكه بعالم الدبلوماسية الدولية، الجمعة والسبت الماضيين، خلال مشاركته في قمة مجموعة الدول السبع الكبرى في صقلية، ليكون اللقاء المقرر اليوم، في قصر فرساي، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المتهمة دولته بالعمل ضد ماكرون خلال الانتخابات الرئاسية، أهم اللقاءات الأجنبية للرئيس الفرنسي حتى الآن.
وخلال ثلاثة أيام، عقد ماكرون لقاءات عديدة مع العديد من زعماء العالم، على رأسهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي جمعه به غداء عمل دام أكثر من ساعة، تطرق فيه الرجلان إلى مختلف الملفات الدولية، خصوصاً تلك التي تختلف حولها باريس وواشنطن، مثل احترام قرارات قمة باريس الدولية للمناخ، التي كان ترامب وعد، خلال حملته الانتخابية، بالخروج منها. ونجح ماكرون بالتواصل مع ترامب، رغم أن الأخير كان يتمنى فشله في الانتخابات الرئاسية، ولم يخف تفضيله منافسته مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان. وحتى المصافحة بين الرجلين، التي ركزت عليها وسائل الإعلام، خرج منها ماكرون "من دون خسارات"، وكانت قبضته بنفس الحزم، رغم أن ترامب يشتهر بأسلوب مصافحة "عنيف" يكاد يكون اختبار قوة محرج لمصافحيه. وفي ختام اللقاء، قال الرئيس الشاب عن نظيره الأميركي "لقد التقيت زعيماً بقناعات قوية، ومستمعاً جيداً يرغب في العمل. أنا أتقاسم معه كثيراً من الأشياء، مثل محاربة الإرهاب، لكن أختلف معه في أشياء أخرى تناقشنا حولها من دون إملاءات عاطفية".
والتقى ماكرون، خلال القمتين، بزعماء آخرين لهم مكانتهم على الساحة الدولية، مثل رؤساء حكومات اليابان، شينزو آبي، وكندا جاستن ترودو، وبريطانيا تيريزا ماي، وإيطاليا باولو جنتيلوني، وبلجيكا شارل ميشيل، والمستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، ورئيس المجلس الأوروبي، دونالد تاسك، بالإضافة إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. وكانت هذه اللقاءات فرصة للتعارف، وأيضاً لتناول الملفات الدولية المشتركة، مثل النزاع السوري ومحاربة الإرهاب وقضية اللاجئين وسُبل تعزيز الاتحاد الأوروبي. وكان لافتاً أن ماكرون حظي باستقبال جيد من طرف نظرائه الأوروبيين، كما ظهر ذلك من الصور وأشرطة الفيديو التي بثتها وسائل الإعلام الدولية. وبدا واضحاً أن الزعماء الأوروبيين يرون في فوز ماكرون برئاسة فرنسا دفعة أمل إيجابية، وهو الذي يشدد دوماً على قناعاته الأوروبية في سياق صعود الأحزاب الشعبوية والمتطرفة في أوروبا التي ركبت على موجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ونجاح ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية. وكان من اللافت أيضاً التقارب العفوي والحار بين ماكرون وجاستن ترودو، اللذين يبلغ فارق السن بينهما ستة أعوام فقط. وتناقلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صورهما وهما يتجاذبان أطراف الحديث على هامش القمتين، وتحولت صور الرجلين إلى رمز لجيل جديد وشاب بأسلوب مغاير من القادة على الساحة الدولية.
وسيتواصل ماراثون ماكرون الدبلوماسي في الأسابيع المقبلة، إذ سيشارك في قمة "مجموعة الدول الخمس في الساحل"، التي تنظمها دول الساحل الأفريقي في 7 و8 يوليو/تموز المقبل، ثم يشارك في قمة لمجموعة العشرين في هامبورغ، ويعقد عدة لقاءات على هامشها، خصوصاً مع الرئيس الصيني، جي جين بينغ. غير أن الموعد الدبلوماسي الأهم سيكون اليوم الإثنين، حين يستقبل ماكرون نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في قصر فرساي، لمناسبة افتتاح معرض يخلد الزيارة التي قام بها إلى باريس القيصر الروسي، بيار لوغران، في العام 1717، والتي دشنت حينها بدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل 300 سنة. وكان ماكرون اقترح على بوتين هذه الزيارة، خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها معه الرئيس الروسي غداة فوزه بالرئاسة في 8 مايو/ أيار الحالي. وتشكل هذه الزيارة اختباراً قوياً للعلاقات بين باريس وموسكو، التي تعيش على وقع أزمة عميقة منذ سنوات، بسبب تعارض المواقف حول عدة ملفات دولية، منها الأزمة في أوكرانيا والنزاع السوري. كما أن باريس تشتبه في تدخل روسي استهدف ماكرون في الانتخابات الرئاسية من أجل إضعافه، خصوصاً وأن بوتين كان استقبل منافسته مارين لوبان في الكرملين خلال الحملة الانتخابية، في بادرة تعكس دعم الكرملين لها. وكان ماكرون صرح، خلال الحملة الانتخابية، بأنه "ليس من أولئك المفتونين بالرئيس بوتين"، وأنه "لا يتقاسم معه القيم التي يتبناها". غير أن ماكرون في حلة الرئيس الفرنسي الجديد سيحاول انتهاج سياسة واقعية لرسم ملامح علاقة جديدة بين الإليزيه والكرملين. وسيبحث الرئيسان حزمة من المواضيع التي تتطلب حداً أدنى من التفاهمات، منها القضية السورية والأوضاع في ليبيا والأزمتان الأوكرانية والكورية، بالإضافة إلى العلاقة مع الاتحاد الأوروبي.