ينصرف معظم أصوات المنظمات الحقوقية المصرية ووسائل الإعلام المعارضة لقانون جرائم تقنية المعلومات الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم السبت الماضي، إلى الإجراءات التي يجيزها القانون لحجب المواقع وملاحقة المعارضين وتجريم ارتكاب أفعال بصيغ مطاطة يصعب وضع تفسير جامع لها، كـ"بث مواد تتعارض مع القيم والمبادئ الأسرية في المجتمع المصري". هذا فضلاً عن توقيع عقوبات بالحبس في جميع الجرائم المنصوص عليها في القانون، رغم كون بعضها يشترط العلانية لتحققه، كنشر أخبار أو معلومات كاذبة أو صادقة بحق شخصيات من دون رغبتها، وهو ما يتصادم مع النصّ الدستوري الذي يحظر توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر أو العلانية.
إلّا أنّ صخب التجريم والعقوبات في هذا القانون الجديد الذي سيضاف إلى أسلحة نظام السيسي لقمع المعارضة، يخفي وراءه تغيرات واسعة في أسلوب تعامل الدولة مع مقدمي خدمات الإنترنت في مصر، ومستخدمي الإنترنت بشكل عام. فجميعهم أصبحوا بحكم القانون الجديد تحت مجهر الأجهزة الأمنية، بعيداً عن ادعاءات حماية الحرية الشخصية والخصوصية وضمانات سرية المعلومات.
فالقانون الجديد يُلزم بداية مقدّمي خدمات الإنترنت بحفظ وتخزين سجّل النظام المعلوماتي أو أيّ وسيلة لتقنية المعلومات، لمدة 180 يوماً متصلة، بما يضمن أن تتعرف الأجهزة الأمنية إلى: مستخدمي الإنترنت أو وسيلة التقنية في وقت أو مكان معين، ومحتوى ومضمون النظام المعلوماتي الداخل تحت سيطرة مقدّم الخدمة، والبيانات الكاشفة لحركة الاتصال، وبيانات أطراف الاتصال، وأي بيانات أخرى يحددها مجلس إدارة الجهاز القومي للاتصالات.
وبناء على هذا التنظيم، سيكون على مقدّمي خدمات الإنترنت توفير بيانات دخول كل مستخدم لديهم، وكذلك استخدام برامج الاتصال عبر الإنترنت وعمليات البيع والشراء وغيرها من أنشطة المستخدم، ليس فقط بمجرد ورود طلب من الجهات المختصة بذلك، بل أيضاً بأن تظلّ هذه البيانات مسجلة لمدة 6 أشهر كاملة، علماً بأن هذا الأمر يتطلّب مضاعفة السعة التخزينية الحالية لخوادم معظم مقدمي الخدمة في مصر، بحسب مصدر مسؤول في إحدى شركات خدمات الإنترنت التابعة لشبكة اتصالات كبرى.
وبعد حفظ هذه البيانات التي تضمن رقابة الدولة بالكامل على تصرفات الأفراد، يلزم القانون مقدمي الخدمة بتخزينها، وعدم إفشائها أو الإفصاح عنها بغير أمر مسبب من المحكمة أو النيابة العامة، وتأمينها على نفقة مقدّم الخدمة حتى لا تتعرّض للإتلاف أو الاختراق أو التعرّف إليها بواسطة أشخاص محظور عليهم ذلك.
وكان طبيعياً ألا يقصر القانون إمكانية التعرّف إلى بيانات المستخدمين وحركتهم على الشبكة العنكبوتية على الجهات القضائية المختصة؛ فالبند الثالث من المادة الثانية من القانون، ينصّ صراحة على أن "يلتزم مقدمو الخدمة والتابعون لهم بأن يوفروا حال طلب جهات الأمن القومي، ووفقاً لاحتياجاتها كافة، الإمكانات الفنية التي تتيح لتلك الجهات ممارسة اختصاصاتها وفقاً للقانون"، أي أنّ هذا النصّ يخرق النص السابق الذي يلزم مقدمي الخدمة بعدم الإفصاح إلا بأمر مسبب من الجهات القضائية المختصة.
وتعبّر هذه الازدواجية بين الجهات القضائية، وجهات الأمن القومي (الاستخبارات والجيش)، عن سياسة ثابتة لدى نظام السيسي في التعامل مع المحاذير الدستورية بشأن الظواهر التي يرغب النظام في قمعها أو السيطرة عليها، والتي ظهرت في القوانين الإجرائية الصادرة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة. فكلّ منها يتضمّن مسارين للتعامل مع الظاهرة؛ الأول قضائي يتضمّن إجراءات تتماشى مع نصوص الدستور من حيث الشكل على الأقل، والثاني مسار أمني تحكمه سلطة الأمر الواقع بذريعة "دواعي الاستعجال" أحياناً، وأحياناً أخرى بسبب "الظروف الطارئة التي تستوجب تدخلاً عاجلاً".
وفي قانون جرائم المعلومات نفسه، صورة أخرى لتوازي المسارين؛ القضائي والأمني، يتمثّل في تنظيم حالات حجب المواقع الإلكترونية. ففي المسار الأوّل، يجب أن تتوفر أمام جهة التحقيق أدلّة على "قيام موقع ببث مواد تعدّ جريمة من الجرائم المنصوص عليها بالقانون، وتشكّل تهديداً للأمن القومي أو تعرّض أمن البلاد أو اقتصادها القومي للخطر"، ثمّ تطلب جهة التحقيق من محكمة الجنايات إصدار قرار بحجب الموقع.
وفي المسار الثاني؛ الأمني، يتيح القانون لجهات التحري والضبط (الشرطة أو الاستخبارات) في حالة الاستعجال لوجود خطر حالي أو ضرر وشيك الوقوع، أن تقوم هذه الجهات من تلقاء نفسها بإبلاغ الجهاز القومي للاتصالات ليأمر مقدم الخدمة بحجب الموقع الإلكتروني أو الروابط أو المحتوى المهدّد للأمن القومي، ثمّ تعرض جهات التحري الأمر على النيابة خلال 48 ساعة.
ويتبيّن من ذلك ازدواج المعايير في القانون، بل وتقنينه إجراءات خارجة عن المقتضيات الدستورية، وتفريغ بعض نصوصه من مضمونها، بخلق سبيل أمني تنفيذي لتحقيق الغاية من التشريع مباشرة من دون دخول في إجراءات قضائية.
وبالعودة إلى البيانات الشخصية للمستخدمين والمطلوب من مقدمي الخدمة تقديمها للسلطات، فإنّ القانون يعاقب مقدّم الخدمة الذي يمتنع عن تسجيل بيانات مشتركيه، بالحبس مدة لا تقلّ عن سنة وغرامة لا تقلّ عن 5 آلاف جنيه ولا تزيد على 20 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين. وتصل هذه العقوبة إلى الحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، حال امتناع مقدم الخدمة عن تقديم البيانات للسلطات بعد طلبها. أمّا إذا لم يقدّمها إلى "جهات الأمن القومي"، فربما تصل العقوبة إلى غرامة مليون جنيه بحسب الفقرة الثانية من المادة 33 من القانون.
وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام المصري القانون لقمع خصوصية المصريين والتعرّف إلى تحركاتهم خارج إطار التحقيقات القضائية في الجرائم المختلفة. ففي يونيو/ حزيران الماضي أصدر السيسي قانون تنظيم خدمات النقل البري للركاب باستخدام تكنولوجيا المعلومات المشهور إعلامياً بـ"قانون أوبر وكريم" الذي ألزم الشركات المرخّص لها بأن "توفر لجهات الأمن القومي وفقاً لاحتياجاتها البيانات والمعلومات والإمكانيات الفنية كافة، من معدات ونظم وبرامج تتيح لتلك الجهات ممارسة اختصاصاتها وفقاً للقانون حال طلبها، وذلك على النحو الذي يحدده قرار رئيس مجلس الوزراء بناء على عرض جهات الأمن القومي".
كذلك نصّ ذلك القانون أيضاً على إلزام الشركات المرخص لها بـ"حفظ البيانات والمعلومات عن الرحلات وتحركات السيارات التابعة لها بصورة مباشرة وميسرة لمدة 180 يوماً، وأن تتيحها لجهات الأمن القومي أو لأي جهة حكومية مختصة عند الطلب".
ولم يؤثّر اعتراض مجلس الدولة على انتهاك خصوصية المواطنين بهذه المواد؛ على إقرار مجلس النواب للقانون وتصديق السيسي عليه، رغم شبهة عدم الدستورية الواضحة في إلزام الشركات بربط قواعد بياناتها ومعلوماتها مع ما يسمى "الجهات المختصة"، وذلك لأنّ الحق في الخصوصية المنصوص عليه في المادة 57 من الدستور يشمل كل ما يدور في فلكها كالتحركات والانتقال".
وأكدت مصادر حكومية أن وزارتي الاستثمار والاتصالات حالياً باتتا متحكمتين بشكل أساسي في قواعد البيانات الخاصة بشركات تزويد خدمات الإنترنت وكذلك شركات النقل الذكي، وأصبح بإمكانهما مع غيرهما من الجهات الأمنية رصد التحركات الفردية والجماعية، والاتصالات عبر الإنترنت، فضلاً عن بيانات الولوج لأي نوع من المواقع الإلكترونية، مع إمكانية تعقّب ذلك من دون أن يكون الأمر مرتبطاً بالحصول على أمر قضائي بمناسبة تحقيق في جريمة معينة.