خلافاً للأعوام السابقة، تأتي الذكرى السابعة للثورة اليمنية بعد تطورات كبرى، شهدها اليمن، في الشهور الأخيرة، وتمثلت بوصول "الثورة المضادة" إلى مرحلة قتل خلالها مهندسها وعرّابها، علي عبدالله صالح، على أيدي حلفائه الحوثيين، بعد أن غامر بالتحالف معهم في طريق محاولات إجهاض ثورة فبرابر/شباط، والانتقام من رموزها، ليُقتل أخيرًا، وتبقى الثورة تواصل مسيرتها على أمل التغلب على العراقيل والأزمات التي دخلت فيها البلاد، وخلقتها محاولات وأد الثورة.
وبالعودة إلى روزنامة الأحداث التي رافقت وأعقبت ثورة فبراير السلمية في اليمن، فإن البدايات الأولى لما اصطلح على تسميته بـ"الثورة المضادة"، تعود إلى الشهور الأولى عام 2011، بعد اندلاع احتجاجات الشباب المطالب بالتغيير، وإسقاط نظام صالح، إذ عمد النظام، حينها، إلى خلق تظاهرات مؤيدة له لمواجهة مطالب الثوار، ولتبدو الثورة كما لو أنها انقسام سياسي بين مؤيدين ومعارضين لـ"الحكومة". ولم يقف الأمر عند التظاهرات، بل انتقل إلى الاعتصامات في بعض الأحيان، كما كان حصل في صنعاء، حيث كان حزب صالح يدعو لتظاهرات كل جمعة، في ميدان السبعين أو في "ميدان التحرير"، في مقابل تظاهر الثوار واعتصاماتهم في ساحتي "الجامعة" و"الستين".
بالتوازي مع التظاهرات المضادة للثورة، فقد سعى نظام صالح لإسقاطها عسكرياً، سواء بمواجهة المتظاهرين بالرصاص، كما حصل في مجزرة "جمعة الكرامة"، في الـ18 من مارس/آذار 2011، أو بالحشود إلى أطراف منطقة الاعتصامات، ومحاولة اقتحامها لفضها بالقوة، وهو ما حصل في مايو/أيار من العام نفسه، في تعز، عندما حاولت القوات الموالية للنظام، اجتياح "ساحة الحرية"، لكن الثوار سرعان ما تمكنوا من استعادتها، وغير ذلك من التحركات العسكرية والمواجهات التي شهدتها صنعاء، بشكل متقطع.
إلى جانب ذلك، بدأ مسار سياسي، ينظر بعض السياسيين اليمنيين والناشطين من شباب الثورة إلى أنه أحد مسارات "الثورة المضادة"، من خلال التحرك عبر المناورات والمبادرات، التي كان من نتائجها، إعلان مبادرة "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، والمعروفة بـ"المبادرة الخليجية"، والتي تضمنت، في أبرز محتواها، نقل السلطة من صالح إلى نائبه حينذاك، عبدربه منصور هادي، ومنحت الأول حصانة من الملاحقة، هو ومن عمل إلى جانبه في سنوات حكمه، كما منحت حزبه حصة بنصف الحقائب والمقاعد الوزارية في الحكومة التي اقترحت تشكيلها خلال المرحلة الانتقالية.
وكانت المبادرة، برأي الثوار حينها، بمثابة طوق نجاة للنظام، بعد أن أعلنت أبرز القوى السياسية المؤيدة للثورة القبول بها، إذ إنها من جهة، منحت النظام فرصة للمناورة وإطالة أمد الثورة والاحتجاجات شهوراً طويلة؛ ومن جهة ثانية، منحت رموز النظام، بمن فيهم صالح، الأمان من الملاحقة، الأمر الذي مكنه من العمل لاحقاً على إفشال الثورة وإسقاط القيادة التي صعدت بها في المرحلة الانتقالية. وعلى الرغم من أن تلك القيادة، أو جزءاً منها على الأقل، كانت من رموز نظام صالح (عبدربه منصور هادي)، إلا أن ذلك، لم يشفع له، من "الثورة المضادة"، التي سعت إلى إفشاله بكافة الأساليب.
في أول عامين من المرحلة الانتقالية، كانت "الثورة المضادة" تتجسد بتحركات لإفشال الحكومة وعراقيل توضع في طريقها، على غرار قطع الخدمات وافتعال أزمات كالكهرباء، ومحاولة تحريض الشارع على الرئيس هادي وحكومة الوفاق الوطني برئاسة محمد سالم باسندوة، لإثبات فشلها تمهيداً لإسقاطها.
المرحلة الثالثة، من الثورة المضادة، ربما كانت الأخطر بين ما سبقها، وقد شملت تحالف صالح وأنصاره في حزب المؤتمر، مع جماعة أنصار الله (الحوثيين)، الذين كانوا يُوصفون أثناء حكم صالح بـ"المتمردين" في محافظة صعدة شمالي البلاد، اتخذ ذلك التحالف وصف "الثورة المضادة"، مستغلاً الخلافات بين الحوثيين وقوى الثورة، بما فيها حزب "التجمع اليمني للإصلاح" وقوى قبلية أخرى، كشيوخ قبائل حاشد، من أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، في محافظة عمران شمال صنعاء، والقائد العسكري المنشق عن صالح، علي محسن الأحمر، والذي اعتبر عديدون أن انضمامه للثورة كان بمثابة طوق نجاة له يقيه من الغرق مع صالح، في حين يصفه آخرون بأنه مثّل حماية للساحات. أصبح هذا الأخير لاحقاً نائب الرئيس اليمني، وهو المنصب الذي لا يزال يشغله حتى اليوم.
وانتقم صالح من العديد من خصومه من مؤيدي الثورة بالتحالف مع الحوثيين، ليصل الأمر إلى ذروته، باجتياح الحوثيين صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، بتسهيل كبير من صالح وحزبه والوحدات العسكرية الموالية له، بما يعنيه ذلك، من خطوة أطاحت بالحكومة التي جاءت بها الثورة، وسلمت العاصمة اليمنية إلى الجماعة، التي لا يتفق معها الغالبية من اليمنيين.
ومع سيطرة الحوثيين على صنعاء، كانت الثورة المضادة قطعت شوطاً كبيراً بإسقاط حكومة "الوفاق"، التي تشكلت بناءً على "المبادرة الخليجية"، كما كان الأمر بمثابة كسر للشوكة العسكرية والقبلية التي وقفت إلى جانب الثورة، بمن في ذلك شيوخ القبائل الموالون لحزب الإصلاح، أو القوات الموالية للفريق الأحمر، في حين لم يكن إقصاء هادي عن الرئاسة سوى مسألة وقتٍ، إذ اتجه الحوثيون لحصار منزله، ما أجبره على الاستقالة في يناير/كانون الثاني 2015، قبل أن يتمكن لاحقاً من الإفلات من قبضتهم ويغادر إلى عدن، ومنها تراجع عن الاستقالة.
مع بدء عمليات التحالف العربي، بقيادة السعودية، في مارس/آذار، بدأ صالح يجني آثار لعبته الخطرة؛ فبعد إضعاف أبرز القوى التي دعمت الثورة، بدأت النتائج تؤتي ثمارها على عكس ما يهوى، بدءاً من عقوبات دولية بقرار من مجلس الأمن بتهمة العمل على عرقلة التسوية السياسية، وصولاً إلى العمليات العسكرية التي وضعته مع الحوثيين في خانة استهداف واحدة، وجعلته والقوات الموالية له هدفاً لغارات التحالف، لشهور الطويلة. كانت "الثورة المضادة"، حينها، قد دفعت بالبلاد، إلى حرب غير مسبوقة في تاريخها، تدخل فيها الخارج. وبصرف النظر عن أهداف الأخير الحقيقية من التدخل، وعن دعم الشرعية من عدمه، إلا أن الانقلاب الحاصل من قبل تحالف "الثورة المضادة" كان أبرز ما قاد البلاد إلى الحرب.
في الأثناء، دمرت الحرب كثيراً مما احتفظ به صالح من قوته وعلاقاته التي راكمها خلال عقود. وأطالت عمر تحالفه مع خصومه سابقاً، الذين اعتقد أنهم حليف مناسب في "الثورة المضادة". إلا أن الرحلة، التي بدأت من الخطوات الأولى المناهضة للثورة منذ تفجرها في العام 2015، مروراً بإعاقة الحكومة خلال المرحلة الانتقالية، ووصولاً إلى الانقلاب، وصلت إلى نهاية لم تكن بعيدة عن التوقعات، حيث قُتل علي عبدالله صالح، على أيدي من تحالف معهم، للانتقام من "الثورة" والانقلاب عليها، وهم الحوثيون، الذين أبقوا خلال تحالفهم معه، حدوداً للثقة، وانتظروا اللحظة التي كان يسعى إليها بالخروج من تحالفه معهم، ليباغتوه في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حينما اقتحموا منزله بعد حصاره.
في المحصلة، وبينما ظن صالح أنّه عائد إلى الواجهة من جديد عبر بوابة "الثورة المضادة"، سيطر الحوثيون على ما كان له في صنعاء، ليبدو في نهاية المطاف أن رحلة "الثورة المضادة"، وإن كانت تسببت فيما تسببت به من حروب ومآلات مأساوية، لقيت مصيراً مأساوياً هي الأخرى. في حين أن ثورة فبراير اليمنية لا تزال، بالنسبة لكثير من رجالها وشبابها، تحولاً لم تثنه الصعوبات، عن أن يستمر الشباب لتحقيق القيم والأهداف التي خرج من أجلها.