وسبب تفرّد هذه المشكلة وصعوبة تحليلها من قبل الأجهزة الحكومية والاستخباراتية والأمنية المصرية وحتى الأجنبية غير البريطانية، أنه "لم يسبق أن أقدمت شركة طيران بمفردها على مثل هذا القرار، إزاء مطار واحد، من دون تنسيق مسبق مع حكومة المطار أو أي شركات أخرى، ومن دون وقوع أي أحداث إرهابية أو عنيفة تستدعي هذه الخطوة"، بحسب تعبير مصدر مطلع بوزارة الطيران المصرية. وأضاف المصدر، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّه لا يجوز المقارنة بين الأزمة الحالية وقرار بريطانيا تعليق رحلاتها إلى شرم الشيخ بعد حادث تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء في 31 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2015، علماً أنّ بريطانيا كانت قد سبقت روسيا نفسها ودولاً أخرى لاتخاذ هذا القرار، وما زالت تتمسّك به على الرغم من كل الجهود التي بذلتها مصر لاستيفاء معايير السلامة البريطانية.
وأوضح المصدر أنّ بريطانيا كانت الدولة الأكثر تشدداً، من بين الدول التي أرادت التدخل في مراقبة إجراءات تطوير وسائل الأمن والسلامة بالمطارات المصرية، "حتى أكثر تشدداً من روسيا التي ما زالت تماطل في التنفيذ الكامل لقرار استئناف الرحلات الجوية". وأشار إلى أن بريطانيا أرسلت منذ نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015 أكثر من 30 فريق تفتيش أمني، تعاونوا مع السلطات المصرية في تطوير معايير السلامة بمطارات القاهرة وشرم الشيخ والغردقة. وكان آخرها فريق تفتيشي زار مطاري القاهرة وشرم الشيخ في مايو/ أيار الماضي، وسجّل إشادة بمستوى التطور والتشديد الأمني وباستخدام استراتيجيات جديدة ووسائل لم تكن متبعة في المطارات المصرية من قبل، وفق المصدر.
وأبدى المصدر استغرابه "البالغ" من إقدام الشركة البريطانية على اتخاذ قرار كهذا من دون "تأطيره" من قبل سلطة الطيران المدني الرسمية، أو الوزارة المعنية في الحكومة البريطانية، موضحاً أنّ "الاتصالات التي أجرتها القاهرة في الساعات الماضية أكدت أن القرار خاصّ بالشركة وحدها، وأنه لا صلة بينه وبين السلطات الحكومية الأخرى التي تباشر عمليات التفتيش والمراقبة الجوية والأرضية. وأنه إذا كان هذا القرار صادراً من تلك السلطات لكان سيتم إعلانه بصورة مغايرة". وتوقف المصدر عند "الخسائر الكبيرة التي ستتكبدها الشركة البريطانية بسبب قرارها على الأمد القصير، مقابل الخسائر الأعظم التي قد تعاني منها مصر بسبب هذا القرار على الأمد الطويل، وخصوصاً إذا شهدت البلاد أيّ مشكلة أمنية خلال الساعات المقبلة".
وذكر المصدر أنّ مسؤولي "لوفتهانزا" أبلغوا السلطات المصرية في ساعة مبكرة من فجر أمس الأحد، أنّ قرار التعليق المؤقت تم اتخاذه بناءً على القرار البريطاني فقط، وأن مسؤولي الشركة تواصلوا مع السلطات الملاحية والأمنية الألمانية، فلم يتم تقديم أي دليل على صحة المخاوف البريطانية، على الأقل حتى الآن، ولا سيما أنّ لندن لا تريد حتى الآن إعلان أسبابها كاملة، حتى في الإعلام البريطاني، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات.
وطرح المصدر الحكومي المصري أربعة احتمالات أساسية لقرار تعليق الرحلات البريطانية، أولها أن تكون المخابرات البريطانية لديها معلومات بخرق أمني قد تشهده مصر في الفترة المقبلة، بغض النظر عن وجود دليل على ذلك من عدمه. والاحتمال الثاني أن تكون الشركة البريطانية قد اتخذت هذا القرار بشكل منفرد، بسبب الفوضى التي شهدها مطار القاهرة منذ الجمعة الماضية بسبب تكدس المسافرين الجزائريين الذين أتوا من بلادهم لحضور مباراة نهائي كأس أمم أفريقيا ولم يعودوا حتى الآن، بسبب قلة رحلات العودة من القاهرة إلى الجزائر، ودخولهم في مشادّات على مدار الساعة مع الأمن المصري، واستدعاء المطار لقوات من الأمن المركزي لضبط الأمن بداخل الصالات التي افترشها مشجعو المنتخب الجزائري. وهو احتمال قد يكون وجيهاً، لكن المصدر استدرك بالقول: "لا يمكن أن يكون منطقياً اتخاذ قرار بهذه الخطورة بناءً على ذلك الحدث البسيط الذي لم يخرج عن السيطرة الأمنية إطلاقاً".
أما الاحتمال الثالث، فهو أن يكون القرار صدر بناءً على تحذير من قبل هيئة الصحة البريطانية للمسافرين إلى مصر منذ 5 أيام، من تناول أطعمة ملوثة أو غير مغسولة بشكل جيد في مناطق البلاد المختلفة، وتحديداً على ساحل البحر الأحمر، على خلفية وفاة سائحين بريطانيين في سبتمبر/ أيلول الماضي في فندق كبير بمدينة الغردقة بسبب بكتيريا "إي كولاي"، التي تنتشر في الأغذية غير النظيفة والأوساط الملوثة. وهنا تساءل المصدر عن سبب صدور هذا التحذير بعد أكثر من 9 شهور على الحادث، وفي ذروة موسم السفر الصيفي للأوروبيين إلى القاهرة.
أما الاحتمال الرابع، فهو صدور القرار على خلفية خلافات سياسية بين بريطانيا ومصر في ما يتعلق بقضايا إقليمية ومحلية مختلفة، في مقدمتها الوضع في ليبيا، وحالة حقوق الإنسان في مصر. ويميل إلى الاحتمال نفسه رئيس سلطة الطيران المدني المصري الطيار سامح الحفني، الذي قال في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب، مساء أول من أمس السبت، إنه "لا يوجد تفسير فني لما حدث، والموضوع سياسي"، من دون تقديم مزيد من الإيضاحات.
وعن طريقة تعامل مصر مع الأزمة الحالية في ظلّ ضعف المعلومات، قال المصدر نفسه الذي تحدّث لـ"العربي الجديد"، إنه فور بلوغ المعلومة للسلطات، تمّ التواصل عبر المسارين الدبلوماسي والاستخباراتي بمشاركة كبيرة من السفير المصري في لندن طارق عادل، لساعات عدة، ولكن من دون الحصول على معلومات كافية. ولفت إلى أنّ المخابرات العامة كانت قد رفضت أن يصدر تصريح سريع بشأن الأزمة من شركة "مصر للطيران"، ثم تمّ الاتفاق على إصدار بيان منسوب لمصدر مسؤول بالطيران المدني لا يحمل أي معلومات، ويشير إلى استمرار محاولات الأجهزة الحكومية التوصل إلى حقيقة ما يجري، مع التأكيد المستمرّ على عدم المساس بالرحلات المصرية من وإلى لندن، للبرهنة على سلامة مطار القاهرة.
وذكر المصدر أنه تم التواصل مع جميع الشركات المتعاملة مع مطار القاهرة لتوضيح انتظام العمل به من دون مشاكل، مشيراً إلى أنه تم رصد تراجع عدد المسافرين بنسبة 10 في المائة، خلال الساعات الماضية في الرحلات القصيرة والمتوسطة، وهو ما يعني أن التأثير السلبي للإعلان البريطاني بدأ يتحقق بالفعل.
وأكد المصدر أنّ وكلاء الشركة البريطانية وموظفيها في مصر، لم يوجدوا أمس الأحد في مطار القاهرة، لكن تمّ تشكيل لجنة للتواصل معهم على مدار الساعة للاطلاع على أيّ مستجدات، إذ تمّ تحويل الركاب للسفر على الخطوط الفرنسية والهولندية والمصرية. وعلى الرغم من شحّ المعلومات المتوافرة لديهم، فإنّ كبار الموظفين رجحوا خلال الاتصالات مع الجانب المصري أنّ "القرار سيقتصر على الأسبوع الحالي فقط". وأشار المصدر إلى أنّ السلطات البريطانية لم تتواصل حتى الآن مع القاهرة بشأن إرسال فرق تفتيش جديدة.
وتبذل الحكومة المصرية مساع حثيثة لإعادة حركة الطيران الأوروبية والروسية إلى جميع المطارات المصرية. وعلى الرغم من أنّ شركة "إيروفلوت" الروسية الحكومية استأنفت رحلاتها من موسكو للقاهرة والعكس، في إبريل/ نيسان 2018، بناءً على بروتوكول استئناف الرحلات وتأمين المطارات الذي وقعه البلدان، إلّا أنّ الموعد المبدئي لعودة الطيران لمدن البحر الأحمر والأقصر، كان شهر أغسطس/ آب الماضي، لكنّ وفد التفتيش الروسي الأخير أوصى باستمرار التأجيل.
ويعتمد البروتوكول والوثائق التكميلية التي وقعت بداية العام الماضي بين مصر وروسيا، حلاً وسطاً حول سلطات واختصاصات الخبراء الأمنيين الروس، إذ كانت موسكو ترغب في ألا يختصوا فقط بالتفتيش على الإجراءات الأمنية الخاصة بالرحلات الروسية، بل تمتد سلطاتهم للرقابة على الإجراءات الأمنية الخاصة بباقي الرحلات. وفي النهاية اتفق الطرفان على أن تكون للمراقبين الروس سلطة مراقبة على الرحلات من وإلى روسيا فقط.
في المقابل، طالبت مصر مراراً، كما طالب النائب عن حزب "العمال" ستيفن تيمز، رئيس مجموعة العمل الخاصة بمصر بالبرلمان البريطاني، في فبراير/شباط الماضي برفع الحظر على الرحلات الجوية إلى شرم الشيخ، وذلك انطلاقاً من حضور رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي القمة العربية الأوروبية في فبراير الماضي التي أقيمت في المدينة الساحلية، التي تصنفها بريطانيا أمنياً بأنها "من الضروري استشارة السلطات قبل زيارتها"، وفقاً لخريطة الأخطار الأمنية الخاصة بمصر، الموجودة على الموقع الرسمي للحكومة البريطانية.
وتخلو الخريطة من أي مناطق آمنة تماماً، إذ تمّ تصنيف القاهرة والإسكندرية والدلتا والساحل الشمالي غرباً حتى مطروح وساحل البحر الأحمر وشرم الشيخ بجنوب سيناء، مناطق ينبغي الاطلاع على نصائح السفر الخاصة قبل التوجه إليها. وتم تصنيف باقي مناطق جنوب سيناء ومحافظة الوادي الجديد بالكامل والامتدادات الصحراوية الغربية لمحافظات الصعيد، مناطق لا ينصح بالسفر لها عدا الرحلات المهمة للغاية، فيما تمّ تصنيف محافظة شمال سيناء بالكامل منطقة غير مسموح السفر إليها بالنسبة لرعايا بريطانيا.
وتشير إحصائيات وزارة الخارجية البريطانية إلى أنّ 900 ألف بريطاني سافروا إلى مصر في 2015، فيما انخفض هذا العدد إلى 231 ألفاً في 2016 بعد منع الرحلات إلى شرم الشيخ، التي كانت تعتبر المقصد السياحي الأول في الشرق الأوسط للمواطنين البريطانيين.
بينما اتخذت السلطات الألمانية مواقف أكثر مرونة باستئناف رحلات "لوفتهانزا" إلى الغردقة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، لتعود السياحة الألمانية إلى معدلاتها الطبيعية هناك. ويتصدر الألمان حالياً الجنسيات الوافدة إلى منتجعات البحر الأحمر، بسبب تراجع أعداد الروس والبريطانيين.