لعل أكثر ما يؤشر إلى حجم الصلافة الإسرائيلية، بفعل العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة والدعم الكامل الذي تقدمه الأخيرة لها، هو ما جاء في تصريحات رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مع افتتاح اللقاء الثلاثي الذي جمع مستشاري الأمن القومي للدول الثلاث، الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، عندما زعم نتنياهو أنه يريد الاستقرار والسلام لسورية، وأن هذا هو بمثابة هدف مشترك ينبغي لتحقيقه ضمان إخراج "القوات الأجنبية التي دخلت سورية بعد العام 2011".
فلم يكن نتنياهو ليدلي بهذا التصريح في لقاء أمني رفيع المستوى، أول من أمس، يجري عادة الاحتياط مسبقاً لكل كلمة وعبارة تطلق فيه، لولا التفاهم الضمني مع روسيا، الذي يبدو أنه بات شبه مطلق بين تل أبيب وموسكو، خصوصاً بعد إعلان مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتريشوف إدراك روسيا لمواضع قلق إسرائيل، وأملها بأن تزول أسباب التهديدات والأخطار التي تهدد الأمن الإسرائيلي، معتبراً أن أمن إسرائيل مصلحة روسية.
وقد كانت هذه التصريحات، وما تم تداوله بعيداً عن الكاميرات، كافية لتعلن الأوساط الأمنية الإسرائيلية رضاها عن مخرجات اللقاء الثلاثي، حتى وإن لم يتم الإعلان عن خطوات عملية ورسمية، مع الإشارة إلى أن هذه الأوساط توقعت استمرار الاتصالات مع الطرفين الروسي والأميركي ما بعد اللقاء. والواقع أنه يمكن القول فعلاً إن عقد اللقاء الثلاثي بهذا المستوى وبهذه الهوية يؤكد تعاظم الدور المتفق عليه لدولة الاحتلال في مسألة ترسيم مستقبل سورية السياسي، مقابل ضمان الأمن الإسرائيلي والتزام النظام مستقبلاً بهذا الأمن، وبأن "لا تكون الأراضي السورية نقطة لتهديد جيرانها"، وهو تعبير من الواضح أنه يعني التزاماً سورياً بوقف ومنع أي محاولة لتنفيذ عمليات يمكن لها أن تهدد الأمن الإسرائيلي، في سياق عودة لسياسات النظام السوري قبل الثورة بحراسة البوابة الشمالية لإسرائيل ومنع أي عمليات أو خطر يهدد الأمن الإسرائيلي عبر الجولان المحتل.
وقد سبق للنظام السوري أن التزم، بحسب تقارير صحافية إسرائيلية قبل عامين، بهذا المبدأ، بعد إعلان تفاهمات "مناطق خفض التوتر والقتال في جنوب غرب سورية"، والذي كانت إسرائيل قد اشترطت فيه التزاماً سورياً صريحاً بكل بنود، وحتى فواصل، اتفاق فصل القوات في العام 1973، الذي أنهى حرب أكتوبر/ تشرين الأول. وقد كان أفيغدور ليبرمان، عندما شغل منصب وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، واضحاً في تشديده على عبارة كل نقطة وفاصلة في الاتفاق. لكن اللقاء الثلاثي الأمني في إسرائيل شكل عملياً تتويجاً واعترافاً روسياً "بدور إسرائيلي" في ترسيم مستقبل سورية، مقابل السعي لإخراج القوات الإيرانية من الأراضي السورية، وهو ما عززه نتنياهو عندما أعلن، بعد كلمته في مستهل اللقاء الثلاثي خلال زيارة لمعرض عسكري في القدس المحتلة، أن الدولتين العظميين متفقتان على وجوب إخراج إيران من الأراضي السورية. ويشكل هذا التفاهم، الذي تحدث عنه نتنياهو، بداية لتحول أيضاً في موقف روسيا من الوجود الإيراني، وهو ما كانت إسرائيل تُعول عليه منذ فترة، لجهة تعزيز التناقض بين المصالح الروسية والإيرانية، مع التقدم نحو مشاريع إعادة إعمار سورية، بمال خليجي، يذهب عملياً للعقود الكبيرة التي ستكون من نصيب روسيا قبل أي شريك آخر. وأبرز ما يؤكد ذلك ما نقله محلل الشؤون العسكرية في القناة الإسرائيلية الـ13 ألون بن دافيد عن مصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى بأن روسيا تعهدت بتقليل كميات الأسلحة التي تنقلها إيران عبر سورية إلى "حزب الله" في لبنان، وتشديد الرقابة على المناطق الحدودية بين إسرائيل وسورية، مع إبعاد المليشيات التي تقاتل إلى جانب قوات النظام عن الحدود الإسرائيلية، وهو ما يعيد للأذهان مسألة تعهد روسيا في اتفاقيات مناطق "خفض التوتر" في جنوب سورية، بشأن إبعاد القوات الإيرانية عن الحدود الإسرائيلية مسافة 40 كيلومتراً على الأقل.
ومع أن مجرد عقد اللقاء بهذا المستوى يعكس تسليماً روسياً بالدور الإسرائيلي، كما يعكس بطبيعة الحال تسليماً من النظام السوري بوجوب تعهده مستقبلاً بحفظ حدوده مع إسرائيل، في ظل الأحاديث عن مسعى روسي لمقايضة اعتراف أميركي بشرعية نظام بشار الأسد للانتقال لمرحلة إعادة الإعمار بإخراج القوات الإيرانية من سورية، وهو ما لم يتم حتى الآن تأكيد تداوله، وإن كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية رددته أكثر من مرة، واعتبره محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي محور الصفقة التي يقترحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويتماشى هذا القول، الذي ذهب إليه رون بن يشاي، مع اللقاء الثنائي، الذي جمع باتريشوف مع مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، للبت في القضايا ذات الصلة بالعلاقات الروسية الأميركية، في سياق مساعي موسكو للاستفادة من العلاقة الخاصة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحكومة نتنياهو، لتذليل العقبات أمام رفع العقوبات الأميركية، ومن ثم الغربية، عن موسكو على خلفية الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين في أوكرانيا، وتسهيل عمليات بسط سيطرة النظام على كامل سورية للانتقال لمرحلة إعادة الإعمار، بما تحمله من فوائد اقتصادية وعقود كبيرة لروسيا.
ولا يعتبر تلويح نتنياهو بالعلاقة المميزة مع الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، كمفتاح وأداة لتحسين موقف إسرائيل الدولي سراً أو مفاجئاً، بل يبدو أن هذا الأمر بات محسوماً في حسابات بوتين، وسعيه لتأمين مصالح روسيا في البقاء في المنطقة والاحتفاظ بوجود لها على مياه وشواطئ المتوسط، وهو ما توفره لها سورية الأسد، خصوصاً في حال تقديم التنازل والمقابل المطلوب أميركياً وإسرائيلياً لمنح الشرعية لنظام الأسد والوجود الروسي على الشواطئ الشرقية للمتوسط. ويتطلب هذا أيضاً من دولة الاحتلال، في المقابل، بحسب بن يشاي، تقليل هجماتها وعملياتها داخل الأراضي السورية لمنع إحراج النظام، مقابل تعهد روسي بإبعاد الفصائل والمليشيات الإيرانية إلى ما بعد 100 كيلومتر عن الحدود مع هضبة الجولان المحتل، ومنع إيران من تحقيق ممر بري من طهران حتى بيروت عبر الأراضي السورية. وفي حال لقي هذا المقترح قبولاً لدى الإدارة الأميركية وساهم في تفكيك العقد التي تحاول روسيا تفكيكها لتأمين بسط سيطرة كاملة للنظام على سورية، فقد يكون هذا السيناريو مدخلاً لتعاون قادم، علني أو في الخفاء، بين النظام السوري وإسرائيل لتأمين الحدود بينهما بما يضمن تنفيذ الصفقة في حال أقرتها إدارة ترامب.