لا يزال اعتداء نيس يلقي بظلاله على المشهد السياسي الفرنسي، كاشفاً عن انقسام كبير في الطبقة السياسية. وتحول الاعتداء إلى مطية لتصفية الحسابات بين المعارضة اليمينية والحكومة الاشتراكية. وبخلاف الاعتداءات الأخيرة، التي أفرزت بدرجات متفاوتة، تضامناً وطنياً بين مختلف الأطياف السياسية في مواجهة التهديد الإرهابي، صار اعتداء نيس عنواناً لمعركة سياسية مفتوحة بين الحكومة والمعارضة في أفق الانتخابات الرئاسية في عام 2017.
وفور وقوع الاعتداء، في 14 يوليو/تموز الجاري، وفيما كان دم الضحايا لا يزال يسيل في "جادة الإنكليز"، لم يتردد رئيس منطقة "آلب ماريتيم-نيس"، عمدة نيس السابق، كريستيان إستروزي، في كيل الاتهامات للحكومة واتهامها بالتقصير وتحميلها مسؤولية الاعتداء. وعلى الرغم من أن إستروزي يدين للاشتراكيين واليسار بنجاحه في تولي منصب رئيس المنطقة، بعدما قرر الاشتراكيون الدعوة للتصويت لصالحه في انتخابات مجالس الأقاليم الأخيرة، كي لا تسقط الجهة في قبضة مرشحة "الجبهة الوطنية"، اليمينية المتطرفة، ماريون ماريشال لوبان، إلا أنه أظهر شراسة كبيرة ضد الحكومة. وبدا الرجل منخرطاً في حملة عنيفة ضد الحكومة والرئاسة الاشتراكية، خطط لها حزب "الجمهوريين" اليميني المعارض، بقيادة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. وكان هذا الأخير عقد اجتماعاً للمكتب السياسي للحزب مساء الاثنين الماضي، رسم فيه معالم المعركة المقبلة مع الرئيس فرانسوا هولاند، ورئيس الوزراء مانويل فالس. وكان أول القرارات عدم التصويت لصالح تمديد قانون حال الطوارئ في مجلسي النواب والشيوخ، سوى بشروط محددة. وبالفعل رضخت الحكومة لهذه الشروط ومنها التمديد لمدة ستة شهور وليس ثلاثة كما كان ينوي هولاند. وقبلت الحكومة أيضاً بعدة شروط أخرى منها تفعيل الاعتقالات الإدارية وإعادة العمل بالإقامة الجبرية، ومنح السلطات حرية كاملة في مصادرة الأجهزة المعلوماتية للمشتبه في ضلوعهم في الأعمال الإرهابية من دون العودة للقضاء، ومنع كل التجمعات العامة والاحتفالات الحاشدة حين لا تتوفر الشروط الأمنية الكفيلة بحمايتها من التهديدات.
وبموازاة معركة التمديد هذه، صعّدت المعارضة اليمينية انتقاداتها للحكومة وتحول وزير الداخلية برنار كازنوف إلى هدف أساسي للحملة، إذ انبرت شخصيات عديدة من المعارضة اليمينية إلى المطالبة بمحاسبته وإن لم تذهب حد المطالبة باستقالته، على غرار ما فعلت الجبهة الوطنية الخميس الماضي. واستغلت المعارضة التحقيق الميداني الذي قامت به صحيفة "ليبيراسيون" وكشفت فيه عن تعتيم الداخلية على عدم تواجد عناصر الشرطة الوطنية في مكان اعتداء نيس، لتزايد على الحكومة وعلى الداخلية. ودخل رئيس مجلس الشيوخ اليميني، جيرار لارشي، على الخط وطالب بلجنة تحقيق مستقلة للبحث في ملابسات اعتداء نيس وتقصير وزارة الداخلية في حماية الحشود المحتفلة بالعيد الوطني ليلة 14 يوليو/تموز، ما أدى بكازنوف إلى التراجع وفتح تحقيق تقني حول القضية تقوم به "شرطة الشرطة"، وهو جهاز يتكلف عادة بالتحقيق في الدعاوى المقدمة ضد الشرطة والشكاوى في انتهاكاتها. وكان من اللافت أن كازنوف تصرف بانفعال غير معهود لديه، في رده على صحيفة "ليبراسيون"، حين سارع إلى إصدار بيان عنيف اللهجة شكك فيه في مهنية الصحافيين في الجريدة المقربة من اليسار وذهب حد اتهامهم بالخضوع لمنطق "المؤامرة"، وهو الاتهام الذي يوجهه الاشتراكيون عادة للوسائل الإعلامية المقربة من اليمين المتطرف.
وأمام هذه الحملة المنظمة للمعارضة، اضطر هولاند إلى الخروج بنفسه إلى الساحة، يوم الخميس، ليعلن دعمه الكامل لوزير الداخلية، وليقر أيضاً بأن هناك شكوكاً مشروعة حول أداء الداخلية ليلة اعتداء نيس، وأكد أن التحقيق سيحدد ما إذا كانت هناك ثغرات أمنية. ودعا الرئيس الفرنسي إلى تفادي المزايدات السياسية حول أداء الحكومة في مواجهة الإرهاب، مؤكداً ضرورة الإجماع الوطني و"رص الصفوف".
اقــرأ أيضاً
وعاد هولاند يوم الجمعة في ختام اجتماع لمجلس الدفاع الوطني ليجدد ثقته الكاملة بوزير الداخلية، محذراً من أن "الخطر الإرهابي صار حقيقة رهيبة ويومية لا مناص منها". وأكد هولاند أنه منخرط بكل قواه منذ وصوله إلى الرئاسة، عام 2012، في مكافحة الإرهاب. غير أن دعواته لم تجد آذاناً صاغية في صفوف المعارضة، التي باتت عازمة على استغلال الجدل حول اعتداء نيس لإضعاف الحكومة وإظهار عجزها للرأي العام.
وتبدو حسابات اليمين، في هذا الصدد، محكومة بأجندة انتخابية صرفة في أفق الانتخابات الرئاسية العام المقبل. فهي تدرك أن حال الطوارئ والتشديد المتزايد للإجراءات الأمنية غير قادر على ردع وتفادي اعتداءات إرهابية على شاكلة اعتداء نيس، ولا أحد يستطيع منع شخص غير مراقب من طرف الأجهزة الأمنية والاستخبارات من التخطيط والتنفيذ لاعتداء بطرق "بدائية" أو منزلية مثل الاعتداء بالأسلحة البيضاء أو بالدهس.
وفي ظل هذا المسار من الاتهامات المتبادلة بين المعارضة والحكومة، تنزلق فرنسا في اتجاه مجهول ومحفوف بالمخاطر. فالرأي العام بات واثقاً من أن الدولة غير قادرة على حمايته وضمان أمنه وسلامته تجاه الاعتداءات الإرهابية. كما أن الحرب الفرنسية الرسمية على الإرهاب في العراق وسورية ومنطقة الساحل الإفريقي وليبيا، صارت تواجه انتقادات كبيرة على المستوى الشعبي، وبات البعض يعتبرها سبباً رئيسياً لاستهداف فرنسا من طرف تنظيم "الدول الإسلامية" (داعش). وأصبحت الجاليات الإسلامية والعربية والفرنسيون من أصول عربية محط اتهام وتشكيك متزايدين، وهو الأمر الذي يصب في طاحونة اليمين المتطرف والعنصري. ويخشى المراقبون من أن يكون هذا الأخير هو الرابح الأكبر من تداعيات الاعتداءات الإرهابية المتكررة وليس المعارضة اليمينية المحافظة. ولا شك أن الانتخابات الرئاسية المقبلة قد تشكل منعطفاً حاسماً في التاريخ الفرنسي الحديث إذا استطاعت زعيمة "الجبهة الوطنية"، مارين لوبان، خلق المفاجأة.
اقــرأ أيضاً
وفور وقوع الاعتداء، في 14 يوليو/تموز الجاري، وفيما كان دم الضحايا لا يزال يسيل في "جادة الإنكليز"، لم يتردد رئيس منطقة "آلب ماريتيم-نيس"، عمدة نيس السابق، كريستيان إستروزي، في كيل الاتهامات للحكومة واتهامها بالتقصير وتحميلها مسؤولية الاعتداء. وعلى الرغم من أن إستروزي يدين للاشتراكيين واليسار بنجاحه في تولي منصب رئيس المنطقة، بعدما قرر الاشتراكيون الدعوة للتصويت لصالحه في انتخابات مجالس الأقاليم الأخيرة، كي لا تسقط الجهة في قبضة مرشحة "الجبهة الوطنية"، اليمينية المتطرفة، ماريون ماريشال لوبان، إلا أنه أظهر شراسة كبيرة ضد الحكومة. وبدا الرجل منخرطاً في حملة عنيفة ضد الحكومة والرئاسة الاشتراكية، خطط لها حزب "الجمهوريين" اليميني المعارض، بقيادة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. وكان هذا الأخير عقد اجتماعاً للمكتب السياسي للحزب مساء الاثنين الماضي، رسم فيه معالم المعركة المقبلة مع الرئيس فرانسوا هولاند، ورئيس الوزراء مانويل فالس. وكان أول القرارات عدم التصويت لصالح تمديد قانون حال الطوارئ في مجلسي النواب والشيوخ، سوى بشروط محددة. وبالفعل رضخت الحكومة لهذه الشروط ومنها التمديد لمدة ستة شهور وليس ثلاثة كما كان ينوي هولاند. وقبلت الحكومة أيضاً بعدة شروط أخرى منها تفعيل الاعتقالات الإدارية وإعادة العمل بالإقامة الجبرية، ومنح السلطات حرية كاملة في مصادرة الأجهزة المعلوماتية للمشتبه في ضلوعهم في الأعمال الإرهابية من دون العودة للقضاء، ومنع كل التجمعات العامة والاحتفالات الحاشدة حين لا تتوفر الشروط الأمنية الكفيلة بحمايتها من التهديدات.
وأمام هذه الحملة المنظمة للمعارضة، اضطر هولاند إلى الخروج بنفسه إلى الساحة، يوم الخميس، ليعلن دعمه الكامل لوزير الداخلية، وليقر أيضاً بأن هناك شكوكاً مشروعة حول أداء الداخلية ليلة اعتداء نيس، وأكد أن التحقيق سيحدد ما إذا كانت هناك ثغرات أمنية. ودعا الرئيس الفرنسي إلى تفادي المزايدات السياسية حول أداء الحكومة في مواجهة الإرهاب، مؤكداً ضرورة الإجماع الوطني و"رص الصفوف".
وعاد هولاند يوم الجمعة في ختام اجتماع لمجلس الدفاع الوطني ليجدد ثقته الكاملة بوزير الداخلية، محذراً من أن "الخطر الإرهابي صار حقيقة رهيبة ويومية لا مناص منها". وأكد هولاند أنه منخرط بكل قواه منذ وصوله إلى الرئاسة، عام 2012، في مكافحة الإرهاب. غير أن دعواته لم تجد آذاناً صاغية في صفوف المعارضة، التي باتت عازمة على استغلال الجدل حول اعتداء نيس لإضعاف الحكومة وإظهار عجزها للرأي العام.
وتبدو حسابات اليمين، في هذا الصدد، محكومة بأجندة انتخابية صرفة في أفق الانتخابات الرئاسية العام المقبل. فهي تدرك أن حال الطوارئ والتشديد المتزايد للإجراءات الأمنية غير قادر على ردع وتفادي اعتداءات إرهابية على شاكلة اعتداء نيس، ولا أحد يستطيع منع شخص غير مراقب من طرف الأجهزة الأمنية والاستخبارات من التخطيط والتنفيذ لاعتداء بطرق "بدائية" أو منزلية مثل الاعتداء بالأسلحة البيضاء أو بالدهس.