قبيل منتصف ليل الإثنين- الثلاثاء، انفجر أول لغم روسي في إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وكان مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، أول ضحاياه، حيث اضطر إلى تقديم استقالته، قبل أن يمضي شهر على وجوده في هذا المنصب الحساس.
وحسب معلومات استخباراتية موثقة لا تحتمل التأويل، حصلت عليها "واشنطن بوست"، فإن الجنرال سبق أن أجرى اتصالاً بالسفير الروسي في واشنطن، قبل تنصيب الرئاسة الجديدة، وتباحث معه موضوع العقوبات الأميركية المفروضة على موسكو.
الأخطر من ذلك، أن الجنرال أنكر أمام نائب الرئيس، مايك بنس، لدى سؤاله في حينه، أن مكالمته مع السفير تناولت العقوبات. فضيحة لم يعد من الميسور مواراتها، فكان سقوط صاحبها.
هذا التطور جاء مفاجئاً في سرعته وتوقيته، لكن موضوعه يتفاعل منذ أسابيع بصورة تراوحت بين الإشاعة والشبهة. الرئيس كان على علم بالأمر مع نائبه مايك بنس، لكنه نام عليه بنية لفلفته على ما بدا. بل ثمة من يرى أنه من المستبعد أن يكون فلين قد قام بذلك الاتصال مع السفير من دون علم وموافقة الرئيس. أقله عرف ترامب بالأمر عن طريق وزيرة العدل بالنيابة في حينه، سالي ياتس، التي أبلغته بأن فلين بات "عرضة لابتزاز الروس"، ووافقها في تقديرها هذا كل من وكالة الأمن الوطني ومكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي". في النهاية، أقالها الرئيس ترامب من منصبها بسبب اعتراضها على قراره بمنع المهاجرين من سبع دول إسلامية.
التفسير المتداول لإخفائه الأمر على بنس لأنه، على الأرجح، وعد السفير الروسي برفع العقوبات التي فرضها الرئيس أوباما على موسكو، بسبب ثبوت تدخلها في الحملة الانتخابية عن طريق القرصنة. ولهذا يعزو أصحاب هذا التفسير عدم رد الرئيس بوتين آنذاك على خطوة أوباما التي شملت طرد 35 دبلوماسيا روسيا من أميركا، وكأنه اعتمد على وعد من الجنرال بأن الإدارة القادمة ستتولى شطب ما أقدم عليه الرئيس السابق.
ولعلّ المشهد الذي هزت واشنطن فصوله، ليل أمس، ينطوي على جملة أبعاد ومدلولات. أولها أن الحدث جاء بمثابة نكسة قاسية لإدارة تكابد لتصحيح إقلاعها المتعثر.
كما جاء ليثير التساؤلات حول مدى صوابية خيارات ترامب، سواء في تعييناته لأركان إدارته، أو في اتخاذ قراراته. فأن يستقيل أو يقال صاحب منصب هام من هذا العيار، وفي هذا الوقت المبكر غير المسبوق، تحت ضغط ما يوازي "فضيحة"، يعني أن هناك خللاً في الاختيار إذا لم يكن أكثر، وهو خلل يضع الإدارة الآن في حالة فقدان الوزن.
ثانياً، كشف هذا السقوط عن عمق الصراعات داخل فريق البيت الأبيض، والتي كانت حديث الصحف والمراقبين في الأيام الأخيرة، قبل أن تخرج الآن إلى العلن. فقبل حوالى ساعة من إعلان الاستقالة، أكّدت مستشارة الرئيس النافذة، كيليان كونواي، أن فلين ما زال "يتمتع بثقة الرئيس". في الوقت ذاته، كان صهر الرئيس، جاريد كوشنر، يستعرض أسماء البدائل عن فلين. والمعروف أن هذا الأخير أثار الكثير من الاعتراضات على تفرّده وتجاهله لآخرين من وزن وزير الدفاع، جيمس ماتيس، وغيره من جهاز البيت الأبيض.
ومن غير المستبعد أن تتوالى مع استقالة فلين استقالات أو تغييرات أخرى في تركيبة فريق البيت الأبيض، مع مجيء مستشار جديد يتردد أن يكون جنرالاً آخر، مثل دافيد بترايوس، الذي عمل في العراق، أو الجنرال كيث كالوغ، الذي تولى مهمة فلين الآن بالنيابة.
ثالثاً، يمكن القول إن الروس نجحوا ليس فقط في الاختراقات الالكترونية للانتخابات الأميركية؛ بل أيضاً في تحقيق اختراقات، بشكل أو بآخر، داخل إدارة ترامب. الأمر الذي أعاد فتح ملف العلاقة الروسية الترامبية، والتي أثارت الشكوك حتى لدى أركان الجمهوريين في الكونغرس. ومن المرجح أن يعمد الأخير إلى توسيع تحقيقاته في هذا الخصوص، بالشكل الذي ربما يزيد من التوتر بين أعضاء الكونغرس عموماً، وبين فريق البيت الأبيض، ناهيك عن احتمالات التردي المحتمل بين واشنطن وموسكو، وما تنطوي عليه من انعكاسات، خاصة على الشرق الأوسط.
إدارة ترامب انطلقت وفوقها تحوم شكوك وتساؤلات كثيرة. آخر ما كانت تحتاجه أن تواجه مثل هذه الانتكاسة التي تعزز وتكثف غيوم الريبة فوقها.