تعدّ حالة اللجوء الفلسطيني أطول قضية لاجئين في العالم، إذ بدأت قبيل 1948، ثم اكتملت جريمة التهجير مع استيلاء إسرائيل على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وقطاع غزة) في حرب 1967. حيث تحوّلت الأغلبية العظمى من السكان الفلسطينيين إلى لاجئين؛ سواء في الدول العربية المجاورة أو في داخل وطنهم.
وتحدد وضع اللاجئين في الشرق الأدنى قانونيًا بشكل أساس من خلال "نظام اللجوء" الذي وضعته الدول العربية بعد نكبة عام 1948، والذي تضمن أولويتين: الحفاظ على حق اللاجئين في العودة، وتلبية حاجات اللاجئين الاجتماعية.
وهذا الكتاب "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي" الصادر حديثاً في ترجمته العربية، يقوم على أربعة محاور تعالج مجموعة محورية في أزمة "الشتات الفلسطيني". شارك في إعداد فصولها عدد من الباحثين الغربيين والعرب. عبر ورشة عمل عُقِدَت في مدينة (بيرغن) بالنرويج (أيلول/سبتمبر 2007)، بعنوان: "حيوات الفلسطينيين في المشرق العربي: من الهجرة الجماعية إلى المنفى".
وعلى الرغم من خصوصية حالة اللجوء الفلسطيني وفرادتها، فإنها تتشارك بدرجة ما مع حالات اللجوء المنتشرة في العالم بملامح وخصائص عامة، والتي يحددها روبين كوهين بأنها تعني: التهجير من الوطن الأم بطريقة دراماتيكية في أغلب الأحيان؛ ذاكرة جماعية خصبة ومُثقَلة بالنوستالجيا وحكايات الحنين إلى أرض الوطن الأم؛ ميل شديد إلى تزيين حياة الماضي في أرض الآباء والأجداد؛ وعي إثني حاد بالهوية يدوم ويستمر فترة غير محدودة؛ عدم تقبّل المجتمعات المضيفة، في الأغلب، وجود اللاجئين بين ظهرانيها، في حين أنهم غالبًا ما يتمكّنون من تطوير نمط حياة خلّاقة وغنية ومتميزة تُسهم في إثراء الحياة في المجتمعات التي تتسامح مع وجودهم؛ والأهم من ذلك كله نشوء وتطوير حركة عودة قوية تتمتع بموافقة ودعم جماعيين.
أسطورة الهجرة الطوعية
بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في مناطق عمليات الأونروا الخمس (الضفة، غزة، لبنان، الأردن، سورية) سنة 2013 (5,311,555 نسمة). فضلاً عن اللاجئين غير المسجلين في الأنروا بتلك المناطق، وغيرهم من اللاجئين خارج تلك المناطق!
وكانت الحيلة الصهيونية لعدم تحمل المسؤولية، ولو جزئياً، عن إيجاد حل لمشكلة اللاجئين، علاوة على الاعتراف بحقهم في العودة؛ هي أن تصطنع إسرائيل أسطورة تقول إن الهجرة التي قام بها الفلسطينيون كانت طوعية!
يرى جابر سليمان أنه على الرغم من النشأة غير الملتبسة لتاريخ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين؛ فإن إسرائيل تُنكر الجذر التاريخي لتلك النشأة، وتتعامى عنه السياسات الأميركية والغربية الداعمة لها من خلال تجاهل تداعيات نكبة 1948 ونكسة 1967. مضيفاً: "الأنكى من ذلك أن بعض الفلسطينيين والعرب تبنّى هذه المقاربة المجزوءة وغير القانونية للمشكلة في أعقاب توقيع اتفاقيات أوسلو، وأصبحت تلك المقاربة جزءًا لا يتجزأ من الخطاب السياسي لما يسمى "عملية السلام". ثم تكرّست هذه المقاربة وتجسّدت لاحقاً في نصوص ما سُمّي "المبادرة العربية للسلام" في عام 2002".
المكان والإدارة والمحلة
يقدم القسم الأول من الكتاب تحت عنوان "المكان والإدارة والمحلة" نقاشًا نقديًا حول بعض المفاهيم والمصطلحات الجديدة الخاصة باللاجئين والهجرة ودراسات الشتات. وتنطلق جولي بيتيت في فصل "رسم خرائط العنف والتهجير ومخيّمات اللاجئين: فلسطين والعراق" من أن المهجرين العراقيين لا يزالون غير مُعترَف بهم بوصفهم لاجئين في المنطقة العربية أو في منظور الإدارة الأميركية. فيما لم يُبحث جديًا في إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم من المجتمع الدولي، باعتبار عودة اللاجئين لأوطانهم هي الحل الأمثل لأزمتهم.
وتشير جولي إلى أن هناك تقنيات جديدة من أجل تمييع قضايا اللاجئين، مثل الحراك من أجل منح صفة "اللجوء" ليهود عرب استوطنوا في إسرائيل، حيث صدرت قرارات عن مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين تدعو إلى شمل اللاجئين اليهود في أي حلّ يتعلق بوضع اللاجئين الفلسطينيين. ويهدف هذا التكتيك التصنيفي إلى تمييع خصوصية تجربة الفلسطينيين، وإعادة صوغها باعتبارها جزءاً من تبادل سكاني، وضمان أن تُواجَه أي محادثات مستقبلية في شأن التعويضات والتوطين بمطالب لاجئين يهود.
فيما يحاول ساري حنفي في فصل "إدارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية" أن يوضح العلاقة بين السلطة والسيادة والفضاء العام في مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية من خلال دراسة أساليب الإدارة داخل المخيمات. قدّم حنفي أطروحتين عامتين: الأولى، أن الدولة في سورية قامت بجعل فضاء المخيم طبيعيًا، وتعاملت معه كأي منطقة سكنية، بينما في لبنان توجد أزمة إدارة مستفحلة في مخيمات اللاجئين، حيث تفشي الفصائلية والزبائنية والصراع المذهبي والطابع القمعي للأمن اللبناني والمراقبة وغياب الإدارة المركزية والسلطة القضائية الفلسطينية، ذلك كله يؤدي إلى استمرار منع الفلسطينيين من تأسيس بُنَى إدارية فاعلة.
والثانية، أنه في شبه الغياب للإدارة التقليدية برزت أنواع حاكمية بديلة بين سكان المخيم، نجحت بشكل ملحوظ في تنظيم سلوك سكانه. وأكد حنفي أن أنواع الحاكمية تلك ساعدت في تأمين سير العمل اليومي في المخيم، كما أسهمت في بروز الإسلاموية وانتشارها.
بينما قامت روزماري صايغ بتحليل الهُويّة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين؛ عبر روايات محاصَرين من مخيمي جنين وشاتيلا. مشيرة إلى أن المقيمين في المخيمات يمتلكون حسًا متميزًا بكونهم "جماعة" تتشارك ظروف القمع والتهميش والفقر ذاتها.
التحضُّر والمكان والسياسات
يذهب محمد كامل الدرعي إلى أن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تميل إلى التطور من خلال الاندماج في النشاط الاقتصادي، وفي المناخ الحضري المديني، حتى وإن ظلّت مهمشة ومناطق معزولة، فهي حاليًا جزء من المدن الرئيسة في الشرق الأوسط. فالنشاط الاقتصادي والحراك اليومي ووجود مهاجرين أجانب جدد، فضلا عن المغزى السياسي والثقافي القوي للاجئين الفلسطينيين، هي العناصر المختلفة التي تميّز المخيمات المعاصرة في لبنان باعتبارها أماكن إقامة حضرية مدينية.
وفي فصل "لاجئون يخططون مستقبل مخيم الفوار بالضفة الغربية" يناقش فيليب ميسلفيتز تجريب استراتيجية تحسين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مسلطاً الضوء على منظمة الأونروا وبرامج المساعدات في مجتمع المخيمات الذي وصفه بأنه معقد وغامض وأشبه بمدينة "الصفيح". وأن عملية التطوير التشارُكي للمخيم كانت في الوقت عينه صعبة وصراعية، لكنها ساعدت في إعادة تعريف علاقة السكان بـ "الأونروا" وببرامج المساعدات المفروضة من الخارج لمصلحة عملية صناعة قرار أكثر تشاركية.
أما آري كنودسن فقد كانت مشاركته بعنوان "نهر البارد: النتائج السياسية لكارثة اللجوء"، فبعد معارك ضارية في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني ومليشيات "فتح الإسلام" سنة 2007، انتهت بتدمير المخيم؛ ظهرت الانقسامات واحتمال الخلاف في شأن من سيتولى ملف اللاجئين في لبنان. وكان الأمر المشترك بين الأحزاب والأطراف كافة هو أنّها لم تكن تتصرف وفق رؤية سياسية، بل وفقًا لحسابات سياسية ومكاسب حزبية. مشيراً إلى أن نهر البارد كان رمزاً قوياً لضعف اللاجئين!
الحقوق المدنية والوضع القانوني
في فصل "جواز سفر بأي ثمن" تعرض عباس شبلاق إلى تداعيات حرمان اللاجئين الفلسطينيين من الجنسية. إذ شكّلت حالة الحرمان من الجنسية تجربة اللاجئين الفلسطينيين في المنفى حساسية كبيرة. وعرّضت هذه الحالة الفلسطينيين لدرجات متباينة من الممارسات التمييزية في الدول العربية المضيفة. وكان للحرمان من الجنسية أثرٌ عميقٌ في إعاقة حركتهم ورفاههم وسبل عيشهم وقدرتهم على بناء مستقبل أفضل لإعالة أنفسهم.
أما الباحثان جلال الحسيني وريكاردو بوكو فقد أقرا بعد أن أسهما في سرد "ديناميّات المساعدة الإنسانية والسياسة المحلّية والإقليمية"، بغلبة الجدوى السياسية التي ينسبها اللاجئون إلى تسجيلهم في سجلات الأونروا، بوصفها برهانًا على صفة اللجوء، أكثر من كونها مصدرًا للخدمات الأساسية. كما لفتا إلى أن ثمة حالة من عدم الرضا عن وضع خدمات الوكالة.
أيضاً لفت هذا الفصل إلى أن اللاجئين يشككون في نظام التمييز الذي وضعته الدول العربية المضيفة بذريعة الحفاظ على "حق العودة". فلم يعد اللاجئون يرون أن تحسين طرائق اندماجهم في تلك الدول، خصوصًا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية داخل المخيمات وخارجها، يمثل تهديداً لحقوقهم السياسية، بل يرون العكس من ذلك تمامًا.
الذاكرة، القدرة والتدامج
عالج القسم الرابع من الكتاب أثر المنفى الطويل في ولادة ممارسات اجتماعية وثقافية جديدة مثل أهمية الذاكرة، وإعادة صوغ مفهوم العائلة والهويات الذاتية الجديدة.
ففي فصل "المؤسسة الوحيدة الباقية والقابلة للحياة :الأسرة"، قام سيلفان بيرديغون بتحليل مقولة أن الأسرة هي المؤسسة التي لا تزال قائمة وقابلة للحياة بين الفلسطينيين. مؤكداً أن هذا الادعاء يتبدى في تجلياته الروتينية، كالعبارات المجازية أو الاستعارات، وفي سلسلة الكلمات ولحظات الصمت التي تتألف منها أحاديث العائلات العادية في مخيمات مدينة صور وتجمّعاتها.
فيما قامت منال قُرطام بتحليل دور الفاعلين المحليين في المسار التعاوني في مخيم شاتيلا بلبنان، وذلك في فصل "السياسة والمحسوبية واللجان الشعبية في مخيم شاتيلا". إذ عرضت لحادثة مثيرة للاهتمام حين أنشأ سكان المخيم لجنة لتحسين ظروف الحياة الصعبة في المخيم، وقاموا بتنصيب قيادة ديمقراطية منتخبة بالاقتراع الشعبي. ولكن هذه المبادرة الإصلاحية الشعبية انهارت في مواجهة تهديدات القوى التقليدية الممسكة بزمام السلطة في المخيم. حيث أظهرت الدارسة مشكلة مواجهة الأنماط التقليدية لإدارة مخيمات اللاجئين في لبنان والتي لا تمثل الصوت الشعبي ولا المشاعر الشعبية، إنما هي قواعد لسلطة خاصة لزعماء سياسيين غير محليين.
(كاتب مصري)
اقرأ أيضاً
فلسطينيو لبنان.. الأزمات مستمرة
تعويضات اليهود العرب ابتزاز إسرائيلي
تدمير الوجود الفلسطيني في سورية
وتحدد وضع اللاجئين في الشرق الأدنى قانونيًا بشكل أساس من خلال "نظام اللجوء" الذي وضعته الدول العربية بعد نكبة عام 1948، والذي تضمن أولويتين: الحفاظ على حق اللاجئين في العودة، وتلبية حاجات اللاجئين الاجتماعية.
وهذا الكتاب "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي" الصادر حديثاً في ترجمته العربية، يقوم على أربعة محاور تعالج مجموعة محورية في أزمة "الشتات الفلسطيني". شارك في إعداد فصولها عدد من الباحثين الغربيين والعرب. عبر ورشة عمل عُقِدَت في مدينة (بيرغن) بالنرويج (أيلول/سبتمبر 2007)، بعنوان: "حيوات الفلسطينيين في المشرق العربي: من الهجرة الجماعية إلى المنفى".
وعلى الرغم من خصوصية حالة اللجوء الفلسطيني وفرادتها، فإنها تتشارك بدرجة ما مع حالات اللجوء المنتشرة في العالم بملامح وخصائص عامة، والتي يحددها روبين كوهين بأنها تعني: التهجير من الوطن الأم بطريقة دراماتيكية في أغلب الأحيان؛ ذاكرة جماعية خصبة ومُثقَلة بالنوستالجيا وحكايات الحنين إلى أرض الوطن الأم؛ ميل شديد إلى تزيين حياة الماضي في أرض الآباء والأجداد؛ وعي إثني حاد بالهوية يدوم ويستمر فترة غير محدودة؛ عدم تقبّل المجتمعات المضيفة، في الأغلب، وجود اللاجئين بين ظهرانيها، في حين أنهم غالبًا ما يتمكّنون من تطوير نمط حياة خلّاقة وغنية ومتميزة تُسهم في إثراء الحياة في المجتمعات التي تتسامح مع وجودهم؛ والأهم من ذلك كله نشوء وتطوير حركة عودة قوية تتمتع بموافقة ودعم جماعيين.
أسطورة الهجرة الطوعية
بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في مناطق عمليات الأونروا الخمس (الضفة، غزة، لبنان، الأردن، سورية) سنة 2013 (5,311,555 نسمة). فضلاً عن اللاجئين غير المسجلين في الأنروا بتلك المناطق، وغيرهم من اللاجئين خارج تلك المناطق!
وكانت الحيلة الصهيونية لعدم تحمل المسؤولية، ولو جزئياً، عن إيجاد حل لمشكلة اللاجئين، علاوة على الاعتراف بحقهم في العودة؛ هي أن تصطنع إسرائيل أسطورة تقول إن الهجرة التي قام بها الفلسطينيون كانت طوعية!
يرى جابر سليمان أنه على الرغم من النشأة غير الملتبسة لتاريخ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين؛ فإن إسرائيل تُنكر الجذر التاريخي لتلك النشأة، وتتعامى عنه السياسات الأميركية والغربية الداعمة لها من خلال تجاهل تداعيات نكبة 1948 ونكسة 1967. مضيفاً: "الأنكى من ذلك أن بعض الفلسطينيين والعرب تبنّى هذه المقاربة المجزوءة وغير القانونية للمشكلة في أعقاب توقيع اتفاقيات أوسلو، وأصبحت تلك المقاربة جزءًا لا يتجزأ من الخطاب السياسي لما يسمى "عملية السلام". ثم تكرّست هذه المقاربة وتجسّدت لاحقاً في نصوص ما سُمّي "المبادرة العربية للسلام" في عام 2002".
المكان والإدارة والمحلة
يقدم القسم الأول من الكتاب تحت عنوان "المكان والإدارة والمحلة" نقاشًا نقديًا حول بعض المفاهيم والمصطلحات الجديدة الخاصة باللاجئين والهجرة ودراسات الشتات. وتنطلق جولي بيتيت في فصل "رسم خرائط العنف والتهجير ومخيّمات اللاجئين: فلسطين والعراق" من أن المهجرين العراقيين لا يزالون غير مُعترَف بهم بوصفهم لاجئين في المنطقة العربية أو في منظور الإدارة الأميركية. فيما لم يُبحث جديًا في إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم من المجتمع الدولي، باعتبار عودة اللاجئين لأوطانهم هي الحل الأمثل لأزمتهم.
وتشير جولي إلى أن هناك تقنيات جديدة من أجل تمييع قضايا اللاجئين، مثل الحراك من أجل منح صفة "اللجوء" ليهود عرب استوطنوا في إسرائيل، حيث صدرت قرارات عن مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين تدعو إلى شمل اللاجئين اليهود في أي حلّ يتعلق بوضع اللاجئين الفلسطينيين. ويهدف هذا التكتيك التصنيفي إلى تمييع خصوصية تجربة الفلسطينيين، وإعادة صوغها باعتبارها جزءاً من تبادل سكاني، وضمان أن تُواجَه أي محادثات مستقبلية في شأن التعويضات والتوطين بمطالب لاجئين يهود.
فيما يحاول ساري حنفي في فصل "إدارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية" أن يوضح العلاقة بين السلطة والسيادة والفضاء العام في مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية من خلال دراسة أساليب الإدارة داخل المخيمات. قدّم حنفي أطروحتين عامتين: الأولى، أن الدولة في سورية قامت بجعل فضاء المخيم طبيعيًا، وتعاملت معه كأي منطقة سكنية، بينما في لبنان توجد أزمة إدارة مستفحلة في مخيمات اللاجئين، حيث تفشي الفصائلية والزبائنية والصراع المذهبي والطابع القمعي للأمن اللبناني والمراقبة وغياب الإدارة المركزية والسلطة القضائية الفلسطينية، ذلك كله يؤدي إلى استمرار منع الفلسطينيين من تأسيس بُنَى إدارية فاعلة.
والثانية، أنه في شبه الغياب للإدارة التقليدية برزت أنواع حاكمية بديلة بين سكان المخيم، نجحت بشكل ملحوظ في تنظيم سلوك سكانه. وأكد حنفي أن أنواع الحاكمية تلك ساعدت في تأمين سير العمل اليومي في المخيم، كما أسهمت في بروز الإسلاموية وانتشارها.
بينما قامت روزماري صايغ بتحليل الهُويّة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين؛ عبر روايات محاصَرين من مخيمي جنين وشاتيلا. مشيرة إلى أن المقيمين في المخيمات يمتلكون حسًا متميزًا بكونهم "جماعة" تتشارك ظروف القمع والتهميش والفقر ذاتها.
التحضُّر والمكان والسياسات
يذهب محمد كامل الدرعي إلى أن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تميل إلى التطور من خلال الاندماج في النشاط الاقتصادي، وفي المناخ الحضري المديني، حتى وإن ظلّت مهمشة ومناطق معزولة، فهي حاليًا جزء من المدن الرئيسة في الشرق الأوسط. فالنشاط الاقتصادي والحراك اليومي ووجود مهاجرين أجانب جدد، فضلا عن المغزى السياسي والثقافي القوي للاجئين الفلسطينيين، هي العناصر المختلفة التي تميّز المخيمات المعاصرة في لبنان باعتبارها أماكن إقامة حضرية مدينية.
وفي فصل "لاجئون يخططون مستقبل مخيم الفوار بالضفة الغربية" يناقش فيليب ميسلفيتز تجريب استراتيجية تحسين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مسلطاً الضوء على منظمة الأونروا وبرامج المساعدات في مجتمع المخيمات الذي وصفه بأنه معقد وغامض وأشبه بمدينة "الصفيح". وأن عملية التطوير التشارُكي للمخيم كانت في الوقت عينه صعبة وصراعية، لكنها ساعدت في إعادة تعريف علاقة السكان بـ "الأونروا" وببرامج المساعدات المفروضة من الخارج لمصلحة عملية صناعة قرار أكثر تشاركية.
أما آري كنودسن فقد كانت مشاركته بعنوان "نهر البارد: النتائج السياسية لكارثة اللجوء"، فبعد معارك ضارية في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني ومليشيات "فتح الإسلام" سنة 2007، انتهت بتدمير المخيم؛ ظهرت الانقسامات واحتمال الخلاف في شأن من سيتولى ملف اللاجئين في لبنان. وكان الأمر المشترك بين الأحزاب والأطراف كافة هو أنّها لم تكن تتصرف وفق رؤية سياسية، بل وفقًا لحسابات سياسية ومكاسب حزبية. مشيراً إلى أن نهر البارد كان رمزاً قوياً لضعف اللاجئين!
الحقوق المدنية والوضع القانوني
في فصل "جواز سفر بأي ثمن" تعرض عباس شبلاق إلى تداعيات حرمان اللاجئين الفلسطينيين من الجنسية. إذ شكّلت حالة الحرمان من الجنسية تجربة اللاجئين الفلسطينيين في المنفى حساسية كبيرة. وعرّضت هذه الحالة الفلسطينيين لدرجات متباينة من الممارسات التمييزية في الدول العربية المضيفة. وكان للحرمان من الجنسية أثرٌ عميقٌ في إعاقة حركتهم ورفاههم وسبل عيشهم وقدرتهم على بناء مستقبل أفضل لإعالة أنفسهم.
أما الباحثان جلال الحسيني وريكاردو بوكو فقد أقرا بعد أن أسهما في سرد "ديناميّات المساعدة الإنسانية والسياسة المحلّية والإقليمية"، بغلبة الجدوى السياسية التي ينسبها اللاجئون إلى تسجيلهم في سجلات الأونروا، بوصفها برهانًا على صفة اللجوء، أكثر من كونها مصدرًا للخدمات الأساسية. كما لفتا إلى أن ثمة حالة من عدم الرضا عن وضع خدمات الوكالة.
أيضاً لفت هذا الفصل إلى أن اللاجئين يشككون في نظام التمييز الذي وضعته الدول العربية المضيفة بذريعة الحفاظ على "حق العودة". فلم يعد اللاجئون يرون أن تحسين طرائق اندماجهم في تلك الدول، خصوصًا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية داخل المخيمات وخارجها، يمثل تهديداً لحقوقهم السياسية، بل يرون العكس من ذلك تمامًا.
الذاكرة، القدرة والتدامج
عالج القسم الرابع من الكتاب أثر المنفى الطويل في ولادة ممارسات اجتماعية وثقافية جديدة مثل أهمية الذاكرة، وإعادة صوغ مفهوم العائلة والهويات الذاتية الجديدة.
ففي فصل "المؤسسة الوحيدة الباقية والقابلة للحياة :الأسرة"، قام سيلفان بيرديغون بتحليل مقولة أن الأسرة هي المؤسسة التي لا تزال قائمة وقابلة للحياة بين الفلسطينيين. مؤكداً أن هذا الادعاء يتبدى في تجلياته الروتينية، كالعبارات المجازية أو الاستعارات، وفي سلسلة الكلمات ولحظات الصمت التي تتألف منها أحاديث العائلات العادية في مخيمات مدينة صور وتجمّعاتها.
فيما قامت منال قُرطام بتحليل دور الفاعلين المحليين في المسار التعاوني في مخيم شاتيلا بلبنان، وذلك في فصل "السياسة والمحسوبية واللجان الشعبية في مخيم شاتيلا". إذ عرضت لحادثة مثيرة للاهتمام حين أنشأ سكان المخيم لجنة لتحسين ظروف الحياة الصعبة في المخيم، وقاموا بتنصيب قيادة ديمقراطية منتخبة بالاقتراع الشعبي. ولكن هذه المبادرة الإصلاحية الشعبية انهارت في مواجهة تهديدات القوى التقليدية الممسكة بزمام السلطة في المخيم. حيث أظهرت الدارسة مشكلة مواجهة الأنماط التقليدية لإدارة مخيمات اللاجئين في لبنان والتي لا تمثل الصوت الشعبي ولا المشاعر الشعبية، إنما هي قواعد لسلطة خاصة لزعماء سياسيين غير محليين.
(كاتب مصري)
اقرأ أيضاً
فلسطينيو لبنان.. الأزمات مستمرة
تعويضات اليهود العرب ابتزاز إسرائيلي
تدمير الوجود الفلسطيني في سورية