في عام 1925 تحدث الأديب سليم الجندي عن إنعاش اللغة العربية في العالم العربي في خطابه الذي ألقاه يوم انتخابه عضواً في المجمع العلمي (مجمع اللغة العربية بدمشق حالياً)، قائلا: "إنّ المهمّة الملقاة على عاتق رجال العلم أعظم مما يقوم بأعبائه أقطاب السياسة وأبطال الحروب ومن شاكلهم ممن لهم ضلع في إعلاء شأن الأمّة". مشيرا بهذا القول، إضافةً إلى كل مغازيه الأخرى، إلى إيمانه بعدم الترابط بين العلم والسياسة وتحيّزه إلى العلم. يسود مثل هذا الموقف مجال اللسانيات والتخطيط اللغوي في الدول العربية، فغالبا ما نقرأ شهادات اللغويين العرب بأنّ أعمالهم هي لخدمة اللغة والعلم لا السياسة.
في المقابل، يختلف الوضع في الصين عما هو في الدول العربية، حيث تتباين آراء بعض اللغويين الصينيين، الذين يصارحون بأنّ اللغة هي من أسباب قوة الدولة وضعفها، وأنّ تسخيرها ضروري من أجل استقرار الدولة ونموها. وبهذا، هم يقحمون اللغة في السياسة.
حول ذلك قام المؤلف جاو شيجيو بجمع آراء مجموعة من اللغويين في كتاب حرّره بعنوان "اللغة والدولة". فصّل جاو كتابه إلى ثمانية أبواب تناول فيها العلاقة بين اللغة من ناحية، ومكانة الدولة والأمن الوطني، والنمو الاقتصادي، والإبداع التكنولوجي، والتحضّر الاجتماعي، والبناء الثقافي والتخطيط التنموي، وصورة الحكومة من ناحية أخرى.
بدأ الكتاب بقاعدة مستنبطة من تاريخ البشرية ألا وهي أنّ اللغة والدولة تقوّيان بعضهما البعض. استشهد الكتاب بانتشار اليونانية واللاتينية في العصر القديم، وسيادة الفرنسية والإنجليزية في العصر الحديث، كنتائج لتعاقب الأنظمة اليونانية والرومانية وفرنسا وبريطانيا العظمى وأميركا ونفوذ قواها فيما وراء حدودها لتصل الى العالم أجمع. كذلك أوضح دور اللغة الإنجليزية ونشر تعليمها واستخدامها عالمياً على يد مؤسسات بريطانية وأميركية في تعزيز مكانة الدولتين وهيمنة ثقافتهما دولياً. بناء على هذه القاعدة، أشار الكتاب إلى ضرورة دعم اللغة الصينية داخل البلاد وخارجها، ليس لضمان استقرار المجتمع الصيني فحسب، بل لازدياد نفوذ الصين وثقافتها في العالم أيضا.
ما يثير الانتباه هو ادعاءات الكتاب الربط بين اللغة والأمن. حيث يتضح قلق هؤلاء اللغويين الصينيين بما يخص الصراع الذي قد ينتج عن نزاعات اللغات سواء صراعات القوميات والفئات الاجتماعية، وعلى ما قد يأتي به توسّع وظائف اللغة في عصر المعلوماتية من الأنشطة التجسّسية التي تمسّ بالمصالح المحورية للصين. يأتي هذا القلق نتيجة لما حدث في أوكرانيا وبلجيكا وكندا حيث أدت النزاعات الاجتماعية باسم اللغة إلى الأزمات السياسية المتنوّعة والتي بدورها أساءت إلى الوضع الأمني في هذه الدول الثلاث وأثرت في وحدة وسيادة أوكرانيا. لذا دعا الكتاب الحكومة الصينية إلى وضع استراتيجية "الأمن اللغوي" اقتداءً بالمنهج الوطني الأميركي، الذي نفّذته حكومة الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2011 لتدريب عدد كافٍ من مُتقني ما يسمّى باللغات الأهمّ استراتيجياً مثل العربية والصينية والكورية والروسية وغيرها. بهذا، أصبحت اللغة، كما ورد في الكتاب، سلاحاً من أسلحة الدفاع عن المصالح الوطنية.
يتميز الكتاب أيضا بما فصّله من العلاقة بين اللغة والاقتصاد. فأفاد بأنّ الصناعات اللغوية المختصّة في تعليم اللغات وخدمة الترجمة وتسمية الماركات والمعلوماتية اللغوية وغيرها، قد درّت ربحاً طائلاً ما زال في ازدياد، وأضاف أنّ ثمار هذه الصناعات كان لها مساهمة مرموقة في إجمالي الإنتاج الوطني لكثير من الدول المتقدّمة. وبالتالي أبدى الكتاب رأياً في اللغة كمورد من الموارد الأساسية والاستراتيجية لدولة ما ينبغي تسخيرها تماما مثل النفط والمعادن وغيرهما من الموارد الطبيعية، لخدمة نمو الاقتصاد الوطني وكسب أرباح اقتصادية وثقافية في الوقت نفسه.
ناقش الكتاب في بابه الأخير كيفية صياغة الكلمات في الخطاب السياسي لخلق صورة إيجابية للحكومة في قلوب العامة، وأيضا أكد على أهمية مراقبات الحكومة اللغات المستخدمة في وسائل الإعلام الاجتماعي لاستكشاف الرأي العامّ الحقيقي وللتوصّل إلى مزيد من التفاهم بين الدولة والمجتمع. فهو يرى أنّ اللغة أصبحت هنا أداة لا غنى عنها للحكم.
بكل ما انتقيتُ في هذا الكتاب من الآراء والحجج، اتّضح لدي تخوف مؤلف الكتاب ونظرائه من اللغويين الصينيين من محدودية علم اللسانيات إذا ما بقي محاصرا في برج عاجي كعلم إنساني بدل أن يتحيّز لأي اتجاه تطبيقي في مجال التخطيط والسياسة لخدمة مصالح الدولة. وبالرغم من مبررات هذا التخوف، إلّا أنّهم قد يُفرِطون في تسييس هذا العلم، فهم يفضّلون اختيار ما يكمن في الحياة اللغوية من الفرص السياسية والأرباح الاقتصادية في مقابل التضحية بالقيمة الإنسانية التي كانت أول قيمة تسعى اللسانيات إلى استكشافها. اذن هذا التحول من الإنسانية إلى التطبيقية الانتهازية لا يحدث إلا في سياق معيّن، حيث تبعث الدولة أقصى نفوذها إلى الحياة الاجتماعية ثمّ تصبح المحور الوحيد الذي تدور حوله هذه الحياة، وبالتالي تصبح المصدر الرئيسي لاكتساب أفراد المجتمع طرق المعيشة والمكانة والنبل.
(أستاذ مساعد في قسم الدراسات العربية بجامعة بكين)
اقرأ أيضا
لماذا لم يحدث ربيع صيني؟
في المقابل، يختلف الوضع في الصين عما هو في الدول العربية، حيث تتباين آراء بعض اللغويين الصينيين، الذين يصارحون بأنّ اللغة هي من أسباب قوة الدولة وضعفها، وأنّ تسخيرها ضروري من أجل استقرار الدولة ونموها. وبهذا، هم يقحمون اللغة في السياسة.
حول ذلك قام المؤلف جاو شيجيو بجمع آراء مجموعة من اللغويين في كتاب حرّره بعنوان "اللغة والدولة". فصّل جاو كتابه إلى ثمانية أبواب تناول فيها العلاقة بين اللغة من ناحية، ومكانة الدولة والأمن الوطني، والنمو الاقتصادي، والإبداع التكنولوجي، والتحضّر الاجتماعي، والبناء الثقافي والتخطيط التنموي، وصورة الحكومة من ناحية أخرى.
بدأ الكتاب بقاعدة مستنبطة من تاريخ البشرية ألا وهي أنّ اللغة والدولة تقوّيان بعضهما البعض. استشهد الكتاب بانتشار اليونانية واللاتينية في العصر القديم، وسيادة الفرنسية والإنجليزية في العصر الحديث، كنتائج لتعاقب الأنظمة اليونانية والرومانية وفرنسا وبريطانيا العظمى وأميركا ونفوذ قواها فيما وراء حدودها لتصل الى العالم أجمع. كذلك أوضح دور اللغة الإنجليزية ونشر تعليمها واستخدامها عالمياً على يد مؤسسات بريطانية وأميركية في تعزيز مكانة الدولتين وهيمنة ثقافتهما دولياً. بناء على هذه القاعدة، أشار الكتاب إلى ضرورة دعم اللغة الصينية داخل البلاد وخارجها، ليس لضمان استقرار المجتمع الصيني فحسب، بل لازدياد نفوذ الصين وثقافتها في العالم أيضا.
ما يثير الانتباه هو ادعاءات الكتاب الربط بين اللغة والأمن. حيث يتضح قلق هؤلاء اللغويين الصينيين بما يخص الصراع الذي قد ينتج عن نزاعات اللغات سواء صراعات القوميات والفئات الاجتماعية، وعلى ما قد يأتي به توسّع وظائف اللغة في عصر المعلوماتية من الأنشطة التجسّسية التي تمسّ بالمصالح المحورية للصين. يأتي هذا القلق نتيجة لما حدث في أوكرانيا وبلجيكا وكندا حيث أدت النزاعات الاجتماعية باسم اللغة إلى الأزمات السياسية المتنوّعة والتي بدورها أساءت إلى الوضع الأمني في هذه الدول الثلاث وأثرت في وحدة وسيادة أوكرانيا. لذا دعا الكتاب الحكومة الصينية إلى وضع استراتيجية "الأمن اللغوي" اقتداءً بالمنهج الوطني الأميركي، الذي نفّذته حكومة الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2011 لتدريب عدد كافٍ من مُتقني ما يسمّى باللغات الأهمّ استراتيجياً مثل العربية والصينية والكورية والروسية وغيرها. بهذا، أصبحت اللغة، كما ورد في الكتاب، سلاحاً من أسلحة الدفاع عن المصالح الوطنية.
يتميز الكتاب أيضا بما فصّله من العلاقة بين اللغة والاقتصاد. فأفاد بأنّ الصناعات اللغوية المختصّة في تعليم اللغات وخدمة الترجمة وتسمية الماركات والمعلوماتية اللغوية وغيرها، قد درّت ربحاً طائلاً ما زال في ازدياد، وأضاف أنّ ثمار هذه الصناعات كان لها مساهمة مرموقة في إجمالي الإنتاج الوطني لكثير من الدول المتقدّمة. وبالتالي أبدى الكتاب رأياً في اللغة كمورد من الموارد الأساسية والاستراتيجية لدولة ما ينبغي تسخيرها تماما مثل النفط والمعادن وغيرهما من الموارد الطبيعية، لخدمة نمو الاقتصاد الوطني وكسب أرباح اقتصادية وثقافية في الوقت نفسه.
ناقش الكتاب في بابه الأخير كيفية صياغة الكلمات في الخطاب السياسي لخلق صورة إيجابية للحكومة في قلوب العامة، وأيضا أكد على أهمية مراقبات الحكومة اللغات المستخدمة في وسائل الإعلام الاجتماعي لاستكشاف الرأي العامّ الحقيقي وللتوصّل إلى مزيد من التفاهم بين الدولة والمجتمع. فهو يرى أنّ اللغة أصبحت هنا أداة لا غنى عنها للحكم.
بكل ما انتقيتُ في هذا الكتاب من الآراء والحجج، اتّضح لدي تخوف مؤلف الكتاب ونظرائه من اللغويين الصينيين من محدودية علم اللسانيات إذا ما بقي محاصرا في برج عاجي كعلم إنساني بدل أن يتحيّز لأي اتجاه تطبيقي في مجال التخطيط والسياسة لخدمة مصالح الدولة. وبالرغم من مبررات هذا التخوف، إلّا أنّهم قد يُفرِطون في تسييس هذا العلم، فهم يفضّلون اختيار ما يكمن في الحياة اللغوية من الفرص السياسية والأرباح الاقتصادية في مقابل التضحية بالقيمة الإنسانية التي كانت أول قيمة تسعى اللسانيات إلى استكشافها. اذن هذا التحول من الإنسانية إلى التطبيقية الانتهازية لا يحدث إلا في سياق معيّن، حيث تبعث الدولة أقصى نفوذها إلى الحياة الاجتماعية ثمّ تصبح المحور الوحيد الذي تدور حوله هذه الحياة، وبالتالي تصبح المصدر الرئيسي لاكتساب أفراد المجتمع طرق المعيشة والمكانة والنبل.
(أستاذ مساعد في قسم الدراسات العربية بجامعة بكين)
اقرأ أيضا
لماذا لم يحدث ربيع صيني؟