27 مارس 2019
"كفّارة" دي ميستورا والبيان رقم واحد
يحيى العريضي
كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون
قُل عن المبعوث الأممي إلى سورية المستقيل، ستيفان دي ميستورا، ما تشاء، إلا أنه إذا كان للقط سبع أرواح، فلدى دي ميستورا ثمان؛ استهلك منها اثنتين كل عام في سنواته الأربع مع القضية السورية. لم يبقَ سوريٌ إلا وشتمه، أكان على ضفة المعارضة أم في دهاليز الموالاة. سبق دي ميستورا مبعوثان: كوفي عنان الذي شدّه عنانه الأخلاقي، فانصرف باكراً، كي لا يشوّه سيرة عمر مستقيم؛ والأخضر الإبراهيمي الذي أراد أن يكون دربه "أخضر" كاسمه. إلا أنه لا بد من تذكّر موقف الشعب السوري الصادق مع بلد المليون شهيد، الجزائر، وكم يتعرّض هذا الشعب للظلم من الطغيان، فاعتذر للسوريين وغادر. ثالث مبعوثي الأمم المتحدة للقضية السورية ستيفان دي ميستورا الذي ربما لعب على دبلوماسية الاستتار أربعا عجافا من التاريخ السوري، فنال شتيمة الفريقين اللذين كلّف بالتوسط بينهما وبتيسير تطبيق القرارات الدولية الخاصة ببلدهم.
بقدر انقسام السوريين، انقسمت الآراء بشأن الرجل؛ رأى بعضهم فيه ألعوبة بيد الروس أو إيران أو النظام؛ وآخرون حسبوه على المكر الغربي. على الرغم من القدرات الدبلوماسية الجبارة التي يمتلكها دي ميستورا، وعلى الرغم من البهلوانيات التي يتقنها، وعلى الرغم من الخبرات النادرة لفريقه الداعم؛ فشل الرجل في تتويج سيرة نصف قرن من التألق الدبلوماسي بنجاح في مهمةٍ لا أنبل ولا أشرف: إعادة سورية إلى سكة السلام والأمان. نعم، فشل الرجل في مهمته؛ ولكن هل فشله نتيجة فعل يديه، أم بفعل (وبنية) المنظمة الدولية التي أوكلت إليه هذه المهمة، أم بسبب ندرة القضية السورية وتعقيداتها؟ تساهم الأسباب الثلاثة أعلاه، كل بنسبةٍ تتفاوت عن الأخرى، في فشل الرجل بإنجاز المهمة. إذا كانت العوامل الذاتية هي التي جعلت فترة انخراط من سبقه في القضية قصيرة؛ فإن أسباباً ذاتية تتعلق بشخص دي ميستورا ربما أطالت فترته.
أدرك الرجل بلا شك أن القضية التي دخل فيها قد تم تدويلها؛ وأن إيقاع عمله سيسير حسب
التوافق أو التنافر الدولي. جرّب الرجل حظه مع ذلك الإيقاع، وتماهى معه؛ ومن هنا طالت فترته، وطالت عذابات السوريين ونزفهم. وبناءً عليه، رأى فيه السوريون ألعوبة أو عميلاً أو خبيثاً.
يرث دي ميستورا بيان جنيف الصادر عام 2012، ويقرأ فيه فشل سلفه الأخضر الإبراهيمي في تيسير تطبيقه؛ فـ "هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات" تعني اقتلاع منظومة الأسد؛ والاقتلاع لا يتم عبر الدبلوماسية (التي يتقنها) في ظل تنابذ القوى؛ ولا أحد يأتي إلى مفاوضاتٍ ليوقع صكّاً يتم بموجبه اقتلاعه. حدث الاستعصاء، فجاء قرار مجلس الأمن 2254 أقل حدّية، وكأنه حليب منزوع الدسم. أتى القرار مع استشعار روسيا ثقلها إثر تدخلها العسكري في سورية. وهنا سعت إلى إفراغ القرار من مضمونه، الأمر الذي يجعل ذراع دي ميستورا تدور في فراغ جنيف مرفقة بغصّات وعثرات تجعل عمله بلا قيمة، فوقف إطلاق النار الذي ينص عليه القرار تم ترحيله إلى "أستانة". حتى إجراءات بناء الثقة المتمثلة بإطلاق سراح المعتقلين ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة وإيصال الإغاثة إليها الملحوظة في المواد 12-13-14 من القرار الدولي قد تم ترحيلها إلى "أستانة" أيضاً. وما كان من دي ميستورا إلا أن يلحقها إلى هناك، لا أن يتمترس عند تنفيذها مواد أو إجراءات فوق تفاوضية.
مساعي روسيا في إفراغ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 من مضمونه، وإحداث العراقيل أمام مسار جنيف، حيث ملعب دي ميستورا، أمران طاولا المعارضة و"ضرورة توحيدها"؛ فانشغل الرجل بالموضوع فترة لا بأس بها، ورضي على نفسه إزاحة التركيز على الجوهر الأساس للقرار الدولي "الانتقال" أو "التغيير" السياسي في سورية. في المساعي الروسية أيضا، وفي مساعي دي ميستورا لإشغال نفسه والمعارضة في الغوص بالمهمة المكلف بها، وفي ظل رفض النظام أي انخراطٍ في أي عملية سياسية إلا إعلامياً ومظاهرياً، وفي ظل التلكؤ الروسي في الضغط على النظام للانخراط واستمرارهما بالقضم الجغرافي عبر أستانة؛ أمعن الروس في إحداث التهتك بالقرار الدولي وتفسيخه إلى سلل؛ وتماهى دي ميستورا مع هذا التوجه. تتالت جولات جنيف؛ وكانت نقطة العلام الفاضحة للنظام ولروسيا الجولة الثامنة التي سحبت ذريعة وجود معارضات وحجته، حيث جاءت المعارضة بوفد واحد. وهنا استشعر الروس الخطر؛ فقفزوا إلى سوتشي، فقفز دي ميستورا معهم. كان ثمن قفزته حيازة الأمم المتحدة على صلاحية تشكيل الثلث الثالث المحايد في اللجنة الدستورية (السلة الثانية) من القرار 2254، والإشراف على عمل اللجنة بتلقي قائمتي المعارضة والنظام.
مرت عشرة أشهر على ما اعتبره دي ميستورا بؤرة ضوء في نفق مهمته المظلم: تشكيل عمل اللجنة الدستورية وإطلاقه، خلالها كانت مليشيات إيران وطائرات روسيا قد جاءت على كل
مناطق "خفض التصعيد" الأستانية. كانت الصدمة في إدلب: ما يزيد على ثلاثة ملايين مدني سوري؛ صرخة عالمية، تركيا صامدة، عشرات آلاف المقاتلين الجاهزين للدفاع عن آخر مناطق خفض التصعيد؛ واستعداد للتعامل مع "هيئة تحرير الشام". وفوق ذلك كله، تبلور سياسة أميركية جديدة تجاه المسألة السورية تتقدم بثقلها، وتقول للروس الذين استفردوا بالملف السوري: ها نحن هنا. حدث التفاهم التركي- الروسي؛ وعاد الالتفات إلى العملية السياسية، وتحديداً "اللجنة الدستورية"، اختصاص دي ميستورا الجديد. يقدّم الرجل قائمته، فيكون الرفض. يقدم إحاطته لمجلس الأمن في السابع عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ويمهرها بنيته بالرحيل؛ ولكن من دون تسمية الأمور بمسمياتها، ومن دون تحديد مَن وما وراء هذا الفشل؛ أي من دون اعتراف صادق يخفف من ختام عمر فاشلٍ، كان ثمنه دماً سورياً وضياع وطن. يبقى أن يفعل دي ميستورا ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني عندما يقدم إحاطته الأخيرة. فهل ستكون "الكفارة" التي تخفف قليلاً عن روح دي ميستورا التي تهتكت بأيدٍ كثيرة، بما فيها يده؟
بقدر انقسام السوريين، انقسمت الآراء بشأن الرجل؛ رأى بعضهم فيه ألعوبة بيد الروس أو إيران أو النظام؛ وآخرون حسبوه على المكر الغربي. على الرغم من القدرات الدبلوماسية الجبارة التي يمتلكها دي ميستورا، وعلى الرغم من البهلوانيات التي يتقنها، وعلى الرغم من الخبرات النادرة لفريقه الداعم؛ فشل الرجل في تتويج سيرة نصف قرن من التألق الدبلوماسي بنجاح في مهمةٍ لا أنبل ولا أشرف: إعادة سورية إلى سكة السلام والأمان. نعم، فشل الرجل في مهمته؛ ولكن هل فشله نتيجة فعل يديه، أم بفعل (وبنية) المنظمة الدولية التي أوكلت إليه هذه المهمة، أم بسبب ندرة القضية السورية وتعقيداتها؟ تساهم الأسباب الثلاثة أعلاه، كل بنسبةٍ تتفاوت عن الأخرى، في فشل الرجل بإنجاز المهمة. إذا كانت العوامل الذاتية هي التي جعلت فترة انخراط من سبقه في القضية قصيرة؛ فإن أسباباً ذاتية تتعلق بشخص دي ميستورا ربما أطالت فترته.
أدرك الرجل بلا شك أن القضية التي دخل فيها قد تم تدويلها؛ وأن إيقاع عمله سيسير حسب
يرث دي ميستورا بيان جنيف الصادر عام 2012، ويقرأ فيه فشل سلفه الأخضر الإبراهيمي في تيسير تطبيقه؛ فـ "هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات" تعني اقتلاع منظومة الأسد؛ والاقتلاع لا يتم عبر الدبلوماسية (التي يتقنها) في ظل تنابذ القوى؛ ولا أحد يأتي إلى مفاوضاتٍ ليوقع صكّاً يتم بموجبه اقتلاعه. حدث الاستعصاء، فجاء قرار مجلس الأمن 2254 أقل حدّية، وكأنه حليب منزوع الدسم. أتى القرار مع استشعار روسيا ثقلها إثر تدخلها العسكري في سورية. وهنا سعت إلى إفراغ القرار من مضمونه، الأمر الذي يجعل ذراع دي ميستورا تدور في فراغ جنيف مرفقة بغصّات وعثرات تجعل عمله بلا قيمة، فوقف إطلاق النار الذي ينص عليه القرار تم ترحيله إلى "أستانة". حتى إجراءات بناء الثقة المتمثلة بإطلاق سراح المعتقلين ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة وإيصال الإغاثة إليها الملحوظة في المواد 12-13-14 من القرار الدولي قد تم ترحيلها إلى "أستانة" أيضاً. وما كان من دي ميستورا إلا أن يلحقها إلى هناك، لا أن يتمترس عند تنفيذها مواد أو إجراءات فوق تفاوضية.
مساعي روسيا في إفراغ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 من مضمونه، وإحداث العراقيل أمام مسار جنيف، حيث ملعب دي ميستورا، أمران طاولا المعارضة و"ضرورة توحيدها"؛ فانشغل الرجل بالموضوع فترة لا بأس بها، ورضي على نفسه إزاحة التركيز على الجوهر الأساس للقرار الدولي "الانتقال" أو "التغيير" السياسي في سورية. في المساعي الروسية أيضا، وفي مساعي دي ميستورا لإشغال نفسه والمعارضة في الغوص بالمهمة المكلف بها، وفي ظل رفض النظام أي انخراطٍ في أي عملية سياسية إلا إعلامياً ومظاهرياً، وفي ظل التلكؤ الروسي في الضغط على النظام للانخراط واستمرارهما بالقضم الجغرافي عبر أستانة؛ أمعن الروس في إحداث التهتك بالقرار الدولي وتفسيخه إلى سلل؛ وتماهى دي ميستورا مع هذا التوجه. تتالت جولات جنيف؛ وكانت نقطة العلام الفاضحة للنظام ولروسيا الجولة الثامنة التي سحبت ذريعة وجود معارضات وحجته، حيث جاءت المعارضة بوفد واحد. وهنا استشعر الروس الخطر؛ فقفزوا إلى سوتشي، فقفز دي ميستورا معهم. كان ثمن قفزته حيازة الأمم المتحدة على صلاحية تشكيل الثلث الثالث المحايد في اللجنة الدستورية (السلة الثانية) من القرار 2254، والإشراف على عمل اللجنة بتلقي قائمتي المعارضة والنظام.
مرت عشرة أشهر على ما اعتبره دي ميستورا بؤرة ضوء في نفق مهمته المظلم: تشكيل عمل اللجنة الدستورية وإطلاقه، خلالها كانت مليشيات إيران وطائرات روسيا قد جاءت على كل
دلالات
يحيى العريضي
كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون
يحيى العريضي
مقالات أخرى
04 مارس 2019
12 فبراير 2019
29 يناير 2019