04 أكتوبر 2024
هل يمكن تحقيق التنمية مع الاستبداد؟
عندما ذهب الرجل المريض إلى الطبيب، بعد تراكم الأمراض والأوجاع، قال له الطبيب أنت تعاني من ارتفاع ضغط الدم، ومن مرض السكري الذي دمر كثيراً من جسدك طوال هذه السنوات. إهمالك طوال هذه السنوات بالإضافة إلى كل تلك التراكمات، السبب في تدمير الشبكية وضعف البصر وبتر القدم وانسداد الشرايين و.. و... "ستتحسن" إن توقفت عن التدخين، ومارست الرياضة، وألزمت نفسك بنظام غذائي صحي قاسٍ، بالإضافة إلى عمليات توسيع الشرايين، وبتر القدم التالفة، واستبدال الكبد الذي تهتك. وعليك أن تتوقف عن التعامل بعصبية وعنف مع الآخرين، ومع أهلك، فهذا سيذكرك أنت قبل أن يضر الآخرين، عليك أن تتوقف عن الظلم والصراعات، وأن تبحث عن السلام الداخلي، حتى ينجح العلاج، عليك أن تبدأ الإصلاح من الآن، وإن تأخرت معناه حياتك. وعندما خرج الرجل المريض من عند الطبيب، ركبه العناد قائلاً الطبيب قال لي "ستتحسن"، ولم يكمل باقي الإرشادات الصارمة التي كانت شروط الطبيب لذلك التحسن، أكمل المريض طريقة حياته الخاطئة، حتى لقي حتفه.
تذكّرني هذه القصة بذلك الاحتفاء المبالغ فيه من الإعلام المصري بتقارير البنك الدولي، أخيراً، التي ترصد تحسناً في بعض المؤشرات الاقتصادية، وتدهوراً في مؤشرات أخرى. ولكن بالطبع يتم اقتطاع الأجزاء الإيجابية فقط وإخفاء الأخرى، فبالتأكيد يرغب النظام المصري في تحقيق أي إنجاز أو إصلاح اقتصادي لاكتساب شرعية، وهذا ما يفسر تلك العجلة، والاعتماد على الجيش في المشروعات والإنشاءات، بهدف جذب المستثمرين، وإقامة مزيد من المشروعات الخدمية والسياحية الفخمة.
التقارير الدولية الصادرة، أخيراً، عن البنك الدولي، مثل تقرير التنافسية الاستثمارية، أو تقرير
ممارسة أنشطة الأعمال، وتقرير قياس مناخ الاستثمار الذي تراجع ترتيب مصر فيه إلى المركز 128 ضمن 190 دولة، وهي التقارير التي يتم إصدارها، بعد الاعتماد على كثير من أعمال الرصد والتحليل للمؤشرات، وهي كذلك تقارير تعتمد عليها دوائر الاستثمار العالمي قبل الإقدام على أي خطوة في أي دولة. ورصدت هذه التقارير تراجع ترتيب مصر في تلك التقارير الدولية في مؤشرات تأسيس الشركات، وإصدار التراخيص، وتعقيدات إجراءات التقاضي، ومعدلات سداد الضرائب.
ترصد التقارير الدولية بعض التحسن، مثل مؤشرات الحصول على الطاقة، أو بعض الآثار المترتبة على تحرير سعر الصرف، وخفض الدعم الحكومي عن الطاقة والخدمات، مثل تقليل الاستيراد، وخفض عجز الميزان التجاري، أو الزيادة الطفيفة في معدلات النمو والتراجع الطفيف لعجز الموازنة. ولكن بشكل عام كانت هناك تداعيات سلبية لقرار تعويم الجنيه، مثل التضخم وزيادة الأسعار بشكل مهول، وزيادة الديون لتتخطى 80 مليار دولار، بجانب الدين المحلي الذي تجاوز ثلاثة تريليونات جنيه مصري، وهي الديون التي ستعاني منها الأجيال المقبلة سنوات طويلة.
هل يمكن تحقيق تنمية حقيقية مع الاستبداد؟ تتعدد تعريفات مصطلح العدالة الاجتماعية، ولا يزال مصطلحا فضفاضا كغيره من مصطلحات كثيرة في العلوم الاجتماعية والسياسية، وكذلك مثله مصطلح التنمية. ولكن يمكن القول إن جوهر العدالة الاجتماعية يتحقق عندما تسود المجتمع فرص متكافئة للحرك والارتقاء الاجتماعي، من دون تمييز على أساس اللون أو الأصل أو الطبقة أو المنصب.
وكان مفهوم التنمية في الخمسينيات والستينيات يقتصر فقط على مفهوم النمو الاقتصادي وزيادة الدخل، ثم أصبح يعبر عن النمو في التحديث والصناعة. ومع الوقت، أضيفت مفاهيم أخرى، لتكون معبرة عن التنمية، فأصبح من الممكن اعتبار البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية مؤشرات للتنمية، كما تمت إضافة البعدين، الثقافي والبيئي، وحماية الموارد الطبيعية.
ويمكن القول أيضاً إن المفاهيم (النيوليبرالية) هي التي تركز على النمو الاقتصادي وزيادة الدخل مقياساً للتنمية، ولكن جوهر التنمية يضع في اعتباره التصنيع والإنتاج، وتقليل الآثار السلبية للنمو الرأسمالي، عن طريق تنمية الإنسان وتوفير احتياجاته وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح الطبقات الأفقر، وهو ما أُطلق عليه لقب التنمية الإنسانية المستدامة.
عودة إلى الموضوع الأصلي بعدة أسئلة: هل يمكن تحقيق تنمية عن طريق قروض صندوق النقد الدولي؟ وهل يمكن أن تتحقق التنمية مع الاستبداد؟ للأسف يمكن ملاحظة الآثار السلبية والمأساوية التي اقترنت بسياسات التقشف التي يشترطها صندوق النقد الدولي، وقد أدت هذه الإجراءات إلى كوارث في عدة دول قبل ذلك، مثل اليونان. وهي أيضاً الآثار التي تزداد كل يوم في مصر، مثل خفض الأجور وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة أسعار السلع والخدمات وتقليل دور الدولة وتدخلها في السوق. ربما يحدث مع تلك السياسات بعض النمو الاقتصادي بشكل عام، ولكن الثروات تتركز في يد 1% فقط من السكان، بينما يعاني الـ 99% من الفقر وسوء أحوال المعيشة، فشروط البنك الدولي هي سياسات لإنقاذ البنوك ورجال الأعمال، وليس لإنقاذ غالبية الشعب، ورفع مستوى المعيشة، وهي الخطة التي تفترض أن القروض والاستثمارات الأجنبية هي التي ستنشئ المشروعات وفرص العمل والوظائف التي ستؤدي مستقبلاً إلى زيادة الدخل ورفع مستوى المعيشة.
أما عن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية والعكس، هل يمكن القول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان شرط أساسي لتحقيق التنمية؟ أم أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بعد مستوى من التنمية؟ صراحةً، هذا موضوع معقد، ولا يمكن قياسه بعلاقة خطية، خصوصاً أن هناك تجارب عديدة حققت "نمواً" اقتصادياً، على الرغم من الاستبداد أو الحكم العسكري، مثل كوريا وسنغافورة ودول جنوب شرق آسيا التي كانت تحكمها أنظمة عسكرية أو سلطوية في العقود الماضية. وتحول بعضها إلى أنظمة أكثر ديمقراطية في حقبة الثمانينيّات وما بعدها. ولكن لا يمكن إنكار
أن هناك نماذج لتحقيق "نمو اقتصادي ورأسمالي" تحت أنظمة ديكتاتورية، ويمكن ذكر نموذج دول الخليج في هذا الأمر، وهي نماذج تتحقق فيها الرفاهية لطبقة أو ائتلاف أو مجموعة عائلات، ولكن تغيب عنها مفاهيم العدالة الاجتماعية، ويغيب عنها المفهوم الأوسع للتنمية الإنسانية المستدامة، وهو ما تحققه الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تضمن المشاركة في اتخاذ القرار والعدالة في التوزيع وتكافؤ الفرص، حتى تتحقق الرفاهية المنشودة بنسبة ما، أو بنِسَب متفاوتة، فإن تحقق نمو اقتصادي تحت حكم أنظمة ديكتاتورية، فلن تتحقق تنمية إنسانية حقيقية، إلا بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
وعودة إلى موضوع المريض الذي يتجاهل الشروط والبرامج التي يجب أن يلتزم بها، حتى يستطيع العيش فترة أطول، فهذا المثال يمكن تطبيقه على النظام الحاكم في مصر، فالتقارير الدولية تشير إلى التحسن في بعض المؤشرات، والهبوط في مؤشرات أخرى. لكنهم يهللون لمؤشرات التحسن، ويتجاهلون مؤشرات الفشل، بالإضافة إلى تجاهلهم أيضاً لأسبابٍ ضرورية لتحقيق نمو اقتصادي، مثل تحسين التعليم ومكافحة الفساد وتطبيق أساليب الحوكمة والإدارة الرشيدة، لربما يحقق عبد الفتاح السيسي بعض النمو الاقتصادي والرأسمالي، على الرغم من كل هذا الكم من القمع والظلم والفساد والاستبداد، وربما لا.
ولكن، وإن نجح في تحقيق بعض نمو، لن يكون ذاك بمثابة تنمية حقيقية، خصوصاً في ظل غياب أي خطةٍ للتصنيع والإنتاج والتنمية. وفي ظل تدهور التعليم والبحث العلمي، وفي ظل تدهور أوضاع الصحة والبيئة، وفي ظل الفساد الذي أصبح جزءا راسخا من ثقافة المجتمع، أو في ظل تلك الطبقية والظلم الاجتماعي وغياب العدالة، ولن تحدث تنمية إنسانية، في ظل قمع الحريات، وسياسة تغييب الوعي المتعمدة، أو في ظل تلك الديون المتراكمة التي ستشكل عبئا ضخما على الأجيال المقبلة التي لا يعني أمرهم شيئاً بالنسبة للعقلية العسكرية، وحتى إن تحقق هذا النمو الرأسمالي المنشود، فسيكون أبعد ما يكون عن أي شكل من العدالة أو التمكين.
تذكّرني هذه القصة بذلك الاحتفاء المبالغ فيه من الإعلام المصري بتقارير البنك الدولي، أخيراً، التي ترصد تحسناً في بعض المؤشرات الاقتصادية، وتدهوراً في مؤشرات أخرى. ولكن بالطبع يتم اقتطاع الأجزاء الإيجابية فقط وإخفاء الأخرى، فبالتأكيد يرغب النظام المصري في تحقيق أي إنجاز أو إصلاح اقتصادي لاكتساب شرعية، وهذا ما يفسر تلك العجلة، والاعتماد على الجيش في المشروعات والإنشاءات، بهدف جذب المستثمرين، وإقامة مزيد من المشروعات الخدمية والسياحية الفخمة.
التقارير الدولية الصادرة، أخيراً، عن البنك الدولي، مثل تقرير التنافسية الاستثمارية، أو تقرير
ترصد التقارير الدولية بعض التحسن، مثل مؤشرات الحصول على الطاقة، أو بعض الآثار المترتبة على تحرير سعر الصرف، وخفض الدعم الحكومي عن الطاقة والخدمات، مثل تقليل الاستيراد، وخفض عجز الميزان التجاري، أو الزيادة الطفيفة في معدلات النمو والتراجع الطفيف لعجز الموازنة. ولكن بشكل عام كانت هناك تداعيات سلبية لقرار تعويم الجنيه، مثل التضخم وزيادة الأسعار بشكل مهول، وزيادة الديون لتتخطى 80 مليار دولار، بجانب الدين المحلي الذي تجاوز ثلاثة تريليونات جنيه مصري، وهي الديون التي ستعاني منها الأجيال المقبلة سنوات طويلة.
هل يمكن تحقيق تنمية حقيقية مع الاستبداد؟ تتعدد تعريفات مصطلح العدالة الاجتماعية، ولا يزال مصطلحا فضفاضا كغيره من مصطلحات كثيرة في العلوم الاجتماعية والسياسية، وكذلك مثله مصطلح التنمية. ولكن يمكن القول إن جوهر العدالة الاجتماعية يتحقق عندما تسود المجتمع فرص متكافئة للحرك والارتقاء الاجتماعي، من دون تمييز على أساس اللون أو الأصل أو الطبقة أو المنصب.
وكان مفهوم التنمية في الخمسينيات والستينيات يقتصر فقط على مفهوم النمو الاقتصادي وزيادة الدخل، ثم أصبح يعبر عن النمو في التحديث والصناعة. ومع الوقت، أضيفت مفاهيم أخرى، لتكون معبرة عن التنمية، فأصبح من الممكن اعتبار البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية مؤشرات للتنمية، كما تمت إضافة البعدين، الثقافي والبيئي، وحماية الموارد الطبيعية.
ويمكن القول أيضاً إن المفاهيم (النيوليبرالية) هي التي تركز على النمو الاقتصادي وزيادة الدخل مقياساً للتنمية، ولكن جوهر التنمية يضع في اعتباره التصنيع والإنتاج، وتقليل الآثار السلبية للنمو الرأسمالي، عن طريق تنمية الإنسان وتوفير احتياجاته وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح الطبقات الأفقر، وهو ما أُطلق عليه لقب التنمية الإنسانية المستدامة.
عودة إلى الموضوع الأصلي بعدة أسئلة: هل يمكن تحقيق تنمية عن طريق قروض صندوق النقد الدولي؟ وهل يمكن أن تتحقق التنمية مع الاستبداد؟ للأسف يمكن ملاحظة الآثار السلبية والمأساوية التي اقترنت بسياسات التقشف التي يشترطها صندوق النقد الدولي، وقد أدت هذه الإجراءات إلى كوارث في عدة دول قبل ذلك، مثل اليونان. وهي أيضاً الآثار التي تزداد كل يوم في مصر، مثل خفض الأجور وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة أسعار السلع والخدمات وتقليل دور الدولة وتدخلها في السوق. ربما يحدث مع تلك السياسات بعض النمو الاقتصادي بشكل عام، ولكن الثروات تتركز في يد 1% فقط من السكان، بينما يعاني الـ 99% من الفقر وسوء أحوال المعيشة، فشروط البنك الدولي هي سياسات لإنقاذ البنوك ورجال الأعمال، وليس لإنقاذ غالبية الشعب، ورفع مستوى المعيشة، وهي الخطة التي تفترض أن القروض والاستثمارات الأجنبية هي التي ستنشئ المشروعات وفرص العمل والوظائف التي ستؤدي مستقبلاً إلى زيادة الدخل ورفع مستوى المعيشة.
أما عن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية والعكس، هل يمكن القول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان شرط أساسي لتحقيق التنمية؟ أم أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بعد مستوى من التنمية؟ صراحةً، هذا موضوع معقد، ولا يمكن قياسه بعلاقة خطية، خصوصاً أن هناك تجارب عديدة حققت "نمواً" اقتصادياً، على الرغم من الاستبداد أو الحكم العسكري، مثل كوريا وسنغافورة ودول جنوب شرق آسيا التي كانت تحكمها أنظمة عسكرية أو سلطوية في العقود الماضية. وتحول بعضها إلى أنظمة أكثر ديمقراطية في حقبة الثمانينيّات وما بعدها. ولكن لا يمكن إنكار
وعودة إلى موضوع المريض الذي يتجاهل الشروط والبرامج التي يجب أن يلتزم بها، حتى يستطيع العيش فترة أطول، فهذا المثال يمكن تطبيقه على النظام الحاكم في مصر، فالتقارير الدولية تشير إلى التحسن في بعض المؤشرات، والهبوط في مؤشرات أخرى. لكنهم يهللون لمؤشرات التحسن، ويتجاهلون مؤشرات الفشل، بالإضافة إلى تجاهلهم أيضاً لأسبابٍ ضرورية لتحقيق نمو اقتصادي، مثل تحسين التعليم ومكافحة الفساد وتطبيق أساليب الحوكمة والإدارة الرشيدة، لربما يحقق عبد الفتاح السيسي بعض النمو الاقتصادي والرأسمالي، على الرغم من كل هذا الكم من القمع والظلم والفساد والاستبداد، وربما لا.
ولكن، وإن نجح في تحقيق بعض نمو، لن يكون ذاك بمثابة تنمية حقيقية، خصوصاً في ظل غياب أي خطةٍ للتصنيع والإنتاج والتنمية. وفي ظل تدهور التعليم والبحث العلمي، وفي ظل تدهور أوضاع الصحة والبيئة، وفي ظل الفساد الذي أصبح جزءا راسخا من ثقافة المجتمع، أو في ظل تلك الطبقية والظلم الاجتماعي وغياب العدالة، ولن تحدث تنمية إنسانية، في ظل قمع الحريات، وسياسة تغييب الوعي المتعمدة، أو في ظل تلك الديون المتراكمة التي ستشكل عبئا ضخما على الأجيال المقبلة التي لا يعني أمرهم شيئاً بالنسبة للعقلية العسكرية، وحتى إن تحقق هذا النمو الرأسمالي المنشود، فسيكون أبعد ما يكون عن أي شكل من العدالة أو التمكين.