قامت الشركة حينها بدعم فرقة عبد الله عكاشة التي لم تستطع منافسة نظيراتها من الفرق الكوميدية، لكن الفكرة تطوّرت فأسست "ترقية" عام 1920 مسرح حديقة الأزبكية (المسرح القومي حالياً) في نفس موقع المسرح القديم، ما ساهم في توفير فضاء جديد للفن الرابع ضمن توجهات الشركة وصاحبها.
لا يمكن القول إن حرب يمتلك مشروعاً ثقافياً متكاملاً، لكن إنشاءه لعدد من الشركات التي تُعنى بالثقافة والفن بشكل متوازٍ ومتزامن يشير إلى رؤية تقوم على أسس واضحة، فبعد افتتاح بنك مصر، أول مصرف برأسمال مصري في مرحلة كان البنك الأهلي الذي أنشأه الاستعمار البريطاني يحتكر القطاع المصرفي ويتحكّم به، توجّه في العام نفسه إلى تأسيس مطبعة مصر التي أراد لها أن تحرّر القراءة وصناعة الكتاب من المستعمر، وإلى جوارها شركة لصناعة الورق الذي كان استيراده محصوراً ببريطانياً أيضاً، ناهيك عن دوره اللاحق في تأسيس "استديو مصر" ودعم السينما.
ربما لا يعرف كثيرون أن طلاب الجامعة والمدارس الثانوية شكّلوا لجاناً لمقاطعة البضائع البريطانية ودعوا إلى سحب الودائع من أي بنك أجنبي وإيداعه في بنك مصر عند افتتاحه، وتنافست اللجان المشكّلة على تحقيق هذا الهدف لتحصل كل مدرسة على حصة من الأسهم في البنك، تنفيذاً لخطة مؤسسه الذي أراد دعم قطاع التعليم بهذه الآلية.
استندت تجربة حرب إلى إيمانه بأن الاستقلال الاقتصادي هو طريق الخلاص من الاستعمار، وبدا له ذلك ممكناً خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) التي استنزفت موارد بريطانيا العظمى فلم تعد قادرة على تأمين احتياجات جيشها المتزايدة، وقرّر أن ينطلق بمشاريعه التي لن يجد معارضة شديدة لها من القصر الملكي ودوائر الحكم، وستجذب لها قطاعات عديدة من الشعب في لحظة صعود الوطنية المصرية عشية ثورة سعد زغلول عام 1919.
لم تكن أفكار صاحب كتاب "تاريخ دول العرب والإسلام" حول التحرّر الوطني تقتصر على مصر، إذ يوضّح الباحث الأميركي إيريك ديفيز في كتابه "طلعت حرب وتحدي الاستعمار: دور بنك مصر في التصنيع 1920 – 1941" الذي ترجمه إبراهيم فوزي عام 2008، أن شركاته التي أسّسها كان لها فروع عربية، ليقوم برحلات إلى الشام حيث افتتح فرع (بنك مصر- سورية- لبنان) عام 1930.
يلفت الكتاب إلى أن "شركة مصر للمناجم والمحاجر" كانت إحدى الشركات الفاعلة في التعاملات الاقتصادية خارج مصر، ووضع الاقتصادي المصري تصوراً لما يمكن أن تضطلع به من "دور كبير في التنقيب عن البترول في العالم العربي، وهو الهدف الذي كان طلعت حرب حريصاً في عدم الإفصاح عنه بسبب حساسية مسألة النفط في ظل التنافس بين القوى الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط".
وبين أوراق حرب الخاصة خطاب يحمل تأشيرة "سري للغاية..." يوضح بجلاء أن التنقيب عن البترول وتوزيع المنتجات البترولية في مصر كان موضوعاً هاماً على أجندة بنك مصر في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، وبالطبع فقد وضعت أزمة عام 1939 نهاية هذه الخطط" في إشارة إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، إذ شهدت جميع مشاريع بنك مصر أزمة حادة.
لم يكن طلعت حرب منفتحاً في فكره وثقافته على غرار أحمد لطفي السيد وقاسم أمين، فقد عارض كثيراً من أفكارهم حول التحرر الاجتماعي، لكنه كان مؤمناً أن سقوط الدولة العثمانية كان بسبب تخلّفها العلمي، وعليه فإن أي نهضة مصرية وعربية تقوم على أساس التحديث في الاقتصاد والتعليم والمجتمع والثقافة والفن، شرطها السيادة والاستقلال والتخلّص من التبعية.