قبل أن يسدل مهرجان كان ستارته الأسبوع الماضي، أتيح للفيلم السوري الوحيد المشارك فيه، والذي حمل عنوان "رسالة إلى" وعُرض ضمن كادر زاوية الأفلام القصيرة، أن يمرر رسالته المفتوحة إلى العالم.
يبدأ الفيلم مع انزلاق الكاميرا رفقة حبل معلق إلى السقف، يوحي للمشاهد بأنه مشنقة، ثم ما تلبث العدسة أن تتكشف عن أربع سيدات معلقات من أرجلهن، داخل زنزانة موحشة. ويبدو من ملامحهن أنهن ينحدرن من هويات مختلفة.
تبدو السجينات للوهلة الأولى مستسلمات لقدر يفوقهن سطوة، ثم ما تلبثن التحرك برقصة تتصاعد حدتها، مع انسكاب كلمات فدوى سليمان، الشاعرة والفنانة السورية، والتي تمتزج مع مقطع من أغنية "جنة يا وطنا"، وكأنها تتردد من بئر الذاكرة السحيق، حيث كانت الثورة السورية، ساحة مفتوحة للرقص والغناء.
قد تكون أولى الرسائل التي يبتغيها الفيلم، أن الموت أول ما يصطاد المستسلمين له، إذ تبدو إحدى السجينات وقد فارقتها الروح من دون مقاومة، على عكس رفيقاتها الثلاثة المتبقيات، اللواتي يواصلن المقاومة والسعي للتحرر، داخل معتقل محكم الحصار. فتنتفض أجسادهن متخلصات من الحبال، تزحفن على الأرض مثقلات بآلام قهر المكان الذي لا يليق بالإنسان في أي زمان، بينما تصدح في أجوائه الخانقة، سيناريو الفيلم، الذي كتبت كلماته فدوى.
تقول فدوى لـ"العربي الجديد": "جاءت فكرة الفيلم من آلام الشعب السوري، الذي حملت ثورته قيماً ومبادئ إنسانية عالمية، من صرخات شعب كانت ثورته كما دوّنها المتظاهرون على لافتاتهم، "الثورة السورية ثورة الإنسان"، ليجد نفسه وأمام صمت العالم أجمع، يُقتل بكل أساليب القتل الوحشية، القديمة والحديثة، المتخيلة وغير المتخيلة".
تتابع الكاميرا انتفاضة السجينات المتصاعدة، كمراقب غارق في لذة الحياد، قبل أن يتحول إلى شاهد شريك بالجريمة، لايكتفي بالرؤية، وإنما يمد يد العون لخنق الضحية وإرغامها على الصمت، في رسالة أخرى، يمررها الفيلم برمزية متقنة، بينما يصور إحدى السجينات تتعرض للاغتصاب على يد "الكاميرا" السجان، قبل أن تسلم الروح وقد خذلها الجمهور الشاهد على جريمة معلنة.
يخرج الفيلم من الإطار السوري الخاص إلى مدن العالم أجمع، حيث لا أحد خالص البراءة.. تقول فدوى لـ"العربي الجديد": "ينطلق الفيلم من القضية السورية، ليفتح لنا شيئاً فشيئاً أبوابه على قضية الإنسان أينما كان، الإنسان الذي مايزال يتعرض للتعذيب، ويموت في أقبية وسجون الأنظمة في كل مكان، حيث حراس العتمة، يقطعون النهار بكامل أسلحتهم".
تتابع الكاميرا مطاردتها للمعتقلتين، فتنوء إحداهما منهارة تحت ثقل الضغط النفسي، في رمزية للمعاناة التي تتسبب بموت المعتقل، والتي تتخطى التعذيب الجسدي إلى التعذيب النفسي، داخل سجن مرصوف بالقتلى من رفاق الدرب، في عالم اشترك الساسة وأمراء الحرب والمثقفون والتجار، على إغراقه بكل أدوات القتل والهمجية.
مخرج الفيلم، الراقص والغوريغراف الفرنسي السوري، رامي حسون، أوضح لـ"العربي الجديد": "أن الفيلم تذكير للعالم، بأن النساء وحدهن في النهاية، من تدفعن الثمن الأعظم لويلات الحروب والاقتتال، وفوق كل هذا يلتهمهن النسيان والنكران في كل قول و فعل.. النساء اللواتي باغتصابهن، وقتلهن وتشريدهن، يشعر الغازي والقاتل والمستبد، بنصره ونجاحه وتفوقه، وقد عمل الجميع في الفيلم من دون مقابل مادي، لم يجمعهم إلا الحب والرغبة في وصول رسالة تفيض قيماً إنسانية محلية، لتلتقي بالقيم الإنسانية العالمية".
في الدقيقة الحادية عشرة والأخيرة من الفيلم، يطل وجه فدوى متحدياً الكاميرا، لتنقلنا من ترنيمة منكسرة إلى أخرى تفيض إصراراً: "الحناجر التي أطلقت فراشاً أزرق، كانت تصدّ وحش دمشق، لا تعرف اليد التي اقتلعتها أنها أنبتت في كل سورية حناجر، عبّاد شمس في حماة وغاراً في حلب، وفي درعا وداريّا عناقيد عنب، ماساً أحمر في الرّقة، وفي حمص الأكاسيا، زنابق ماءٍ في الفرات، نوتة نهر دجلة الخالدة، مكتوبةً بأبجدية أوغاريت وعمريت، فوق رقمٍ طينيّ محفوظ في كفرنبل، تقول: سورية لينا وماهي لبيت الأسد. عاشت سورية ويسقط بشار الأسد. واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. لا سلفية ولا أخوان بدنا دولة مدنية".
لتختم الفيلم واقفة رفقة السجينة الوحيدة الناجية من الاعتقال، أمام مبنى الأمم المتحدة، في مواجهة لأكاذيب مجلس الأمن، الذي لم يحرك ساكناً، بل على العكس، شارك في واحدة من أكبر الجرائم الإنسانية، مستصرخة كل ضمير في العالم: "في العتمة المبهرة، عيون سورية تشق جنح الليل بالنور تقول.. أوقفوا هذه المجزرة".