للبولندي الفرنسي رومان بولانسكي (1933) خبرة طويلة، وكفاءة مشهودة في إخراج أفلام كلاسيكية عديدة بارزة، تُعتبر علامات في تاريخ السينما. خبرته لم تجعله يتجاوز حدود النوع السينمائي وجمالياته الفنية، سعيًا إلى إسقاطات ذاتية أو اجتماعية. في أفلامه تلك، لا تجاوزات كبيرة لحدود السرد الدرامي الكلاسيكي المتعارف عليه، كما في "ماكبث" (1971) و"أوليفر تويست" (2005) مثلاً.
الأمر مُختلف في "إنّي أتّهم" (2019)، الفائز بجائزة "الأسد الفضي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم"، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينسيا السينمائي الدولي". ففيه، ينتقل بولانسكي، على نحو شديد الذاتية، من العام إلى الخاص، ما يخلق بعض الالتباس، إذ يصعب الفصل بين القضية التاريخية لألفريد دريفوس (1859 ـ 1935)، التي يتناولها الفيلم، وحياة المخرج المثيرة للجدل، مع التنبّه إلى خلفيّته العرقية أيضًا. في "إنّي أتّهم"، حاول بولانسكي التوحّد مع بطله، أو على الأقل أنْ يضع نفسه في المأزق نفسه. الإسقاط غير مباشر، إذْ ليس هناك اقتران وثيق بين شخصية المخرج وبطله. لكن الإحالة غير خافية ولا يصعب استنتاجها.
في النهاية، هناك إجابة عن التساؤل المُلحّ: لماذا تناول بولانسكي قضية دريفوس تحديدًا، هي التي يعرفها الجميع؟ ما الجديد فيها؟ ما سبب أهميتها الآن؟
بعيدًا عن الاقتران بين المخرج وبطل القضية، ومقارنةً بأفلامه عامة، يمكن القول إنّ جديد بولانسكي يحمل بصماته المُميّزة: أجواء مؤامرة وغموض وتشويق. هذه حاضرة في الفيلم كلّه. مقارنةً بأفلامه الكلاسيكية خاصة، يُمكن وصف "إنّي أتّهم" بأنّه الأكثر إبهارًا وإمعانًا في الكلاسيكية، وفي خلق أجواء توحي بهذا. فيه، يظهر بولانسكي في أوجّ تجلّياته. العناية بالتفاصيل وأدقّ المفردات، دروسٌ مهمّة، بالإضافة إلى الديكور والإضاءة والملابس وزوايا التصوير والأكسسوارات وألوان الكادرات وتصميم المناظر. لوحات خارجة من القرن الـ19، أبدعها مع المُصوّر البولندي بافل إدلمان. لوحات منسوجة على خلفية موسيقية شجية للفرنسي ألكسندر ديبلا تُعتبر إضافة نوعية، من دون إخلال التناغم العام.
باختصار، يُعطي "إنّي أتّهم"، فنيًا، وتقنيًا، درسًا نموذجيًا في كيفية صنع فيلم كلاسيكي.
يبدأ جديد بولانسكي عام 1894 بمشهد مهيب، يُجرَّد فيه دريفوس (لوي غاريل)، ضابط المدفعية، من رتبه العسكرية، بعد إدانته بالتخابر مع الألمان، وتوجيه تهمة الخيانة العظمى له. يحدث هذا في ساحة كبيرة، أمام حشد هائل من الجنود والضباط والجماهير الواقفة وراء أسيجة تحيط بالساحة، وترغب في الفتك بالرجل، الذي ينفي التُهمة عن نفسه، بجسارة وحزم. يشهد الحدث أيضًا مُحقّق يعمل في القضية، وأستاذ دريفوس في المدرسة العسكرية، الكولونيل بيكار (جان دوجاردان).
سريعًا، ينتقل بولانسكي ـ عبر لقطات متلاحقة ـ إلى جزيرة "الشيطان" في المحيط الأطلسي، حيث يُنفى دريفوس مدى الحياة. عندها، يظهر أنْ لا متابعة لشخصية دريفوس، الذي يتوارى في الخلفية، باستثناء لقطات نادرة، مع إعادة محاكمته لاحقًا، وإنْ تحضر قصّته/ قضيته دائمًا. فالفيلم يتمحور أساسًا حول شخصية بيكار، المعيّن مؤخّرًا رئيسًا لجهاز الاستخبارات. يحاول بيكار نفض الغبار عن الجهاز القديم، وإعادة هيكلته، وتحديثه على نحو عصري، وإخراجه من بيروقراطيته، رغم تذمّر من حوله، ومنهم البيروقراطي المخابراتي الداهية، الكولونيل هنري (غريغوري غادُبوا)، مُساعد سلفه.
لبيكار قدر كبير من الحصافة والحزم والذكاء. صدفة، مع فطنة وربط بين الخيوط والأحداث، إثر تقصّ دؤوب، يكتشف أنّ المتّهم الحقيقي في قضية دريفوس هو الضابط إستِرْهازي (لوران ناتْريلاّ)، الذي كشف أسرارًا عسكرية لضابط إيطالي، جمعته به علاقة غرامية. الأدلّة والبراهين التي جمعها أفضت بالتالي إلى كشف براءة دريفوس، فيطلب بيكار الإفراج عنه وإصلاح الخطأ، لكن القيادات العليا ترفض ذلك، فيعمل على إيصال المسألة إلى أعلى قيادات الجيش، لكن طلبه يرفض مُجدّدًا، ويُطلب منه تناسي الموضوع لأسباب عديدة، منها سمعة الجيش والقيادات وإثارة الرأي العام، ويهودية دريفوس.
كراهية اليهود كانت في أوجّها آنذاك، ومن بين الكارهين بيكار نفسه. لكن شخصيته المستقيمة أبت أنْ يخالف ضميره، ويتواطأ مع الدولة ضد إنسان بريء، وإنْ يكن يهوديًا. بيكار رجل مبادئ، رغم كل شيء. ينشد الحقيقة، مهما كانت العواقب، وإنْ أفضى الأمر به إلى السجن، وتجريده من رتبه العسكرية، وتلويث سمعته الاجتماعية. هذا حصل فعليًا، بعد صراع مع المؤسّسات العسكرية والبوليسية والقضائية، بالإضافة إلى إدانة المجتمع، وشجبه لسلوكه. لاحقًا، يعود كلّ شيء إلى نصابه الصحيح، ويُعيّن بيكار وزيرًا للدفاع، ويخرج دريفوس من سجنه، ويعود إلى الجيش مستعيدًا شرفه العسكري، وإنْ لم يستطع الحصول على الترقيات الدورية، التي يُفترض به الحصول عليها أثناء فترة سجنه.
"إنّي أتّهم" ـ المقتبس عن رواية "ضابط وجاسوس" (2013) للبريطاني روبرت هاريس، المشارك في كتابة السيناريو مع بولانسكي ـ يستدعي تأمّلاً فيه للاستمتاع به فنيًا، وأيضًا ضمن السيرة السينمائية لمخرجه. باستبعاد الجائزة واسم بولانسكي والمقارنة بينه وبين مأزق دريفوس، يسهل جدًا الاستمتاع به، وبإيقاعه المُشوّق والسريع. هناك معانٍ كثيرة يسوقها الفيلم ضمنيًا، كصلابة الفرد وبأسه وإصراره على تحقيق مآربه، وإقامة العدل والإنصاف، مهما كانت العقبات، وإدانة المؤسّسة العسكرية، وكلّ مؤسّسة لا يقيم أفرادها أدنى اعتبار للحقيقة والعدل.
في النهاية، هذا فيلمٌ عن الفرد مقابل المؤسّسة، وعن الولاء للحقيقة، مهما كانت، في مقابل المؤسّسة أيضًا، رغم الانتماء إليها.