عام 2019، تخطّى فيلمان مصريان حاجز الـ100 مليون جنيه مصري كإيرادات محلية، للمرّة الأولى. لا يُمكن البدء بحصادٍ يخصّ السينما المصرية في العام نفسه من دون تلك المعلومة. لكن، يجب أنْ يكون هناك فحص ومساءلة عما يعنيه هذا الرقم، وما إذا كان هذا الانتعاش التجاري الكبير يوازيه حِراك سينمائي حقيقي أم لا.
الفيلمان المذكوران هما "الفيل الأزرق 2" لمروان حامد، و"ولاد رزق 2" لطارق العريان. يتشابهان في أمورٍ كثيرة: كلّ واحد منهما هو جزء ثانٍ لسابقٍ عليه، وهما ناجحان، ما يعني أنهما يعيدان صوغ القصّة والمفردات نفسها، لتلك التي كانت في الجزء الأول، كما أنّهما يعتمدان على "نجوم شبّاك" جاذبين، يصلح رصّهم على الملصقات. كما أنّهما ينتميان إلى نوعٍ سينمائي قريبٍ من أفلام هوليوود، كالرعب/ الغموض (الفيل الأزرق)، أو الحركة/ الإثارة (ولاد رزق)، من دون إعادة صوغ مفردات هذا النوع بلغة مختلفة، أو بلغة أكثر ارتباطاً بالمكان المصري، لكن بتأثّر مُطلق بما يُقدَّم في الخارج.
هذا شكلٌ يتفاعل معه مُشاهدون شباب كثيرون، يتابعون السينما الأميركية، ويُقبلون بانبهار على إعادة تقديم ذلك مع ممثلين يتحدّثون اللغة العربية، وإنْ بجودة أقلّ.
لكن عام 2019 ليس عام الأرقام القياسية فقط، بفضل هذين الفيلمين، بل أيضاً بفضل 3 أفلام أخرى تجاوزت حاجز الـ50 مليون جنيه مصري، وهي: "كازابلانكا" لبيتر ميمي (79 مليوناً)، و"الممر" لشريف عرفة (74 مليوناً)، و"نادي الرجال السري" لخالد الحلفاوي (59 مليوناً). لذا، فإنّ اللافت للانتباه كامنٌ في أنّ هناك 5 أفلام من أصل 6 (مُنتجة عام 2019) هي الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما المصرية.
يُمكن ربط هذا بثمن تذكرة الدخول، الذي يزداد ارتفاعاً بسبب الوضع الاقتصادي. لكن، يستحيل ألّا يرتبط بإقبال جماهيري ضخم على السينما.
لكن: هل الرواج هذا مفيد للصناعة والفن، بالمفهوم الواسع لهما؟ أم أنّه يؤدّي إلى احتكار أنواع أفلام محدّدة للسينما في مصر؟
رداً على هذا، يمكن تقديم معلومات، بدءاً بعدد الأفلام المصرية المُنتجة عام 2019، وهو 25 فيلماً فقط. هذا رقم ضئيل للغاية. ثانياً، وعلى عكس العام الماضي، الذي شهد عروض أفلام مصرية عديدة في مهرجانات دولية، كـ"يوم الدين" لأبو بكر شوقي في مهرجان "كانّ"
اقــرأ أيضاً
مثلاً، فإنّ هذا العام لم يشهد عرض أيّ فيلم مصري في مهرجانات كهذه، باستثناء "بعلم الوصول" لهشام صقر، المعروض في "مهرجان تورنتو".
نتيجة حالة الجفاف الفني، إنْ صحّ التعبير، اختار مهرجان مصري واحد، هو "مهرجان القاهرة"، فيلماً وثائقياً واحداً في مسابقته الرسمية، هو "احكيلي" لماريان خوري.
الرواج التجاري مقابل قلّة الإنتاج وضعف الطموح الفني إجمالاً، تُشير كلّها ببساطة إلى أمرٍ واحد: تميل صناعة السينما المصرية حالياً إلى شكلٍ إنتاجي تجاري ضخم، يحشد عدداً كبيراً من النجوم في أفلام هوليوودية النزعة، مع عدم إتاحة فرص الإنتاج أمام أفلام أخرى متوسّطة الميزانية، أو بميزانية محدودة. هذا شكل غير صحّي للصناعة أبداً، في أي مكان في العالم.
الأمر الثالث، الضروري عند معاينة حصاد السينما المصرية هذا العام، هو الإشارة إلى استمرار تضييق المجال العام في مصر، إلى درجة الإغلاق أحياناً. أحد أشكال التضييق يتمثّل بالرقابة على المصنّفات الفنية، وعدم إعطاء تصاريح التصوير لأعمال سينمائية كثيرة مُقدّمة إليها، إمّا لأنّ محتواها إشكالي بالنسبة إلى موظّفي الدولة العاملين في جهاز الرقابة (بينهم الرقيب خالد عبد الجليل نفسه)، وإمّا لأنّها تحمل أفكاراً لا يريدها أحد الآن، وإمّا لأنّ صنّاعها أنفسهم مغضوبٌ عليهم في الدولة، بسبب تأييدهم لـ"ثورة 25 يناير" (2011)، ومعارضتهم النظام في وقتٍ سابق.
هذا حاصلٌ بالتزامن مع الترويج لـ"الممر" لشريف عرفة، "الفيلم الحربي" الذي يستعيد بطولات الجيش المصري أثناء حرب الاستنزاف، بعرضه المتواصل على قنوات فضائية، وتكريم أبطاله في مؤتمرات رسمية يحضرها رئيس الجمهورية، ليصبح هذا نوع "الفنّ" المطلوب والمُدعوم من الدولة، وأي فيلم آخر يقدِّم صورة مخالفة للمطلوب يعطَّل ويُضيّق عليه، ما دفع فنانين مصريين إلى تصوير أعمالهم خارج مصر في الفترة الحالية.
في مقابل كون عام 2018 مُبشِّراً للغاية، بسبب كثرة التجارب المُغايرة والحماسة لها، مع "يوم الدين" لشوقي و"ليل خارجي" لأحمد عبد الله السيد و"ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح وغيرها، فإنّ العام الحالي شهد تراجعاً شديداً على المستوى الفني، وازدهاراً تجارياً غير مسبوق لنوع محدّد من الأعمال. ولكي يصبح الازدهار مفيداً لفنّ السينما وصناعتها، يجب أن يُفتح المجال أمام أفلامٍ أخرى مستقلّة ومغايرة للسائد.
الفيلمان المذكوران هما "الفيل الأزرق 2" لمروان حامد، و"ولاد رزق 2" لطارق العريان. يتشابهان في أمورٍ كثيرة: كلّ واحد منهما هو جزء ثانٍ لسابقٍ عليه، وهما ناجحان، ما يعني أنهما يعيدان صوغ القصّة والمفردات نفسها، لتلك التي كانت في الجزء الأول، كما أنّهما يعتمدان على "نجوم شبّاك" جاذبين، يصلح رصّهم على الملصقات. كما أنّهما ينتميان إلى نوعٍ سينمائي قريبٍ من أفلام هوليوود، كالرعب/ الغموض (الفيل الأزرق)، أو الحركة/ الإثارة (ولاد رزق)، من دون إعادة صوغ مفردات هذا النوع بلغة مختلفة، أو بلغة أكثر ارتباطاً بالمكان المصري، لكن بتأثّر مُطلق بما يُقدَّم في الخارج.
هذا شكلٌ يتفاعل معه مُشاهدون شباب كثيرون، يتابعون السينما الأميركية، ويُقبلون بانبهار على إعادة تقديم ذلك مع ممثلين يتحدّثون اللغة العربية، وإنْ بجودة أقلّ.
لكن عام 2019 ليس عام الأرقام القياسية فقط، بفضل هذين الفيلمين، بل أيضاً بفضل 3 أفلام أخرى تجاوزت حاجز الـ50 مليون جنيه مصري، وهي: "كازابلانكا" لبيتر ميمي (79 مليوناً)، و"الممر" لشريف عرفة (74 مليوناً)، و"نادي الرجال السري" لخالد الحلفاوي (59 مليوناً). لذا، فإنّ اللافت للانتباه كامنٌ في أنّ هناك 5 أفلام من أصل 6 (مُنتجة عام 2019) هي الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما المصرية.
يُمكن ربط هذا بثمن تذكرة الدخول، الذي يزداد ارتفاعاً بسبب الوضع الاقتصادي. لكن، يستحيل ألّا يرتبط بإقبال جماهيري ضخم على السينما.
لكن: هل الرواج هذا مفيد للصناعة والفن، بالمفهوم الواسع لهما؟ أم أنّه يؤدّي إلى احتكار أنواع أفلام محدّدة للسينما في مصر؟
رداً على هذا، يمكن تقديم معلومات، بدءاً بعدد الأفلام المصرية المُنتجة عام 2019، وهو 25 فيلماً فقط. هذا رقم ضئيل للغاية. ثانياً، وعلى عكس العام الماضي، الذي شهد عروض أفلام مصرية عديدة في مهرجانات دولية، كـ"يوم الدين" لأبو بكر شوقي في مهرجان "كانّ"
نتيجة حالة الجفاف الفني، إنْ صحّ التعبير، اختار مهرجان مصري واحد، هو "مهرجان القاهرة"، فيلماً وثائقياً واحداً في مسابقته الرسمية، هو "احكيلي" لماريان خوري.
الرواج التجاري مقابل قلّة الإنتاج وضعف الطموح الفني إجمالاً، تُشير كلّها ببساطة إلى أمرٍ واحد: تميل صناعة السينما المصرية حالياً إلى شكلٍ إنتاجي تجاري ضخم، يحشد عدداً كبيراً من النجوم في أفلام هوليوودية النزعة، مع عدم إتاحة فرص الإنتاج أمام أفلام أخرى متوسّطة الميزانية، أو بميزانية محدودة. هذا شكل غير صحّي للصناعة أبداً، في أي مكان في العالم.
الأمر الثالث، الضروري عند معاينة حصاد السينما المصرية هذا العام، هو الإشارة إلى استمرار تضييق المجال العام في مصر، إلى درجة الإغلاق أحياناً. أحد أشكال التضييق يتمثّل بالرقابة على المصنّفات الفنية، وعدم إعطاء تصاريح التصوير لأعمال سينمائية كثيرة مُقدّمة إليها، إمّا لأنّ محتواها إشكالي بالنسبة إلى موظّفي الدولة العاملين في جهاز الرقابة (بينهم الرقيب خالد عبد الجليل نفسه)، وإمّا لأنّها تحمل أفكاراً لا يريدها أحد الآن، وإمّا لأنّ صنّاعها أنفسهم مغضوبٌ عليهم في الدولة، بسبب تأييدهم لـ"ثورة 25 يناير" (2011)، ومعارضتهم النظام في وقتٍ سابق.
هذا حاصلٌ بالتزامن مع الترويج لـ"الممر" لشريف عرفة، "الفيلم الحربي" الذي يستعيد بطولات الجيش المصري أثناء حرب الاستنزاف، بعرضه المتواصل على قنوات فضائية، وتكريم أبطاله في مؤتمرات رسمية يحضرها رئيس الجمهورية، ليصبح هذا نوع "الفنّ" المطلوب والمُدعوم من الدولة، وأي فيلم آخر يقدِّم صورة مخالفة للمطلوب يعطَّل ويُضيّق عليه، ما دفع فنانين مصريين إلى تصوير أعمالهم خارج مصر في الفترة الحالية.
في مقابل كون عام 2018 مُبشِّراً للغاية، بسبب كثرة التجارب المُغايرة والحماسة لها، مع "يوم الدين" لشوقي و"ليل خارجي" لأحمد عبد الله السيد و"ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح وغيرها، فإنّ العام الحالي شهد تراجعاً شديداً على المستوى الفني، وازدهاراً تجارياً غير مسبوق لنوع محدّد من الأعمال. ولكي يصبح الازدهار مفيداً لفنّ السينما وصناعتها، يجب أن يُفتح المجال أمام أفلامٍ أخرى مستقلّة ومغايرة للسائد.