جاء صفي يزدانيان إلى الإخراج من النقد والكتابة الأدبية. مشاهدة "وفجأة، شجرة"، في الدورة الـ37 (18 ـ 26 إبريل/ نيسان 2019) لـ"مهرجان فجر الدولي للفيلم"، لا تمنع شعورًا بأننا لسنا أمام "فيلم إيراني"، اعتدنا مُشاهدته في مهرجانات دولية مختلفة، أو في صالات العروض التجارية في الغرب. في فيلمه هذا شاعرية السينما الإيرانية، البعيدة عن سينما عباس كيارستمي، وسرد قصصي يعتمد على الحوار من دون أن يشبه أصغر فرهادي. إنه سينما إيرانية من تلك التي نادرًا ما تصل إلى الغرب.
في هذه المناسبة، التقت "العربي الجديد" صفي يزدانيان في حوار عن أفلامه والسينما الإيرانية.
(*) في فيلميك "أي ساعة هي الآن في دنياك؟" و"فجأة، شجرة"، تتكرّر أمكنة ومشاعر: بحر، بيت الأم، ذكريات افتقاد، مع شيء من حنين. هل هما جزء من سيرة ذاتية؟
- تمامًا. حقّقت أفلامًا قصيرة ووثائقية عديدة، قبل إنجاز هذين الفيلمين. لا أنوي احتراف صناعة الفيلم الطويل، بل اخترته لرواية قصص متعلّقة بحياتي، وببيت أمّي في "رشت" (بحر الخزر)، وبارتباطي بجذوري لجهة الأم. هذا واضح أكثر في فيلمي الثاني. الأول، قصّة أبسط وأكثر شعبية، أردته لأكون جاهزًا، وأقنع الناس والمنتجين (بي). عرف نجاحًا جماهيريًا. يُعتبر الآن "فيلم مرجع" (Culte)، بسبب الغنائية التي فيه، والربط بين الموسيقى الغربيّة وهذا المكان الواقع في الشمال (جيلان)، وشخص إيراني يعيش في الغرب، ويراه بعين إيرانية.
في فيلمي هذا، مُهمّ لي ألا يغادر البطل إيران بعد العام الأول للثورة، لارتباطه ثقافيًا بالبلد، بينما غادر رفاقه جميعهم. في "وفجأة، شجرة"، لا يُمكن للبطل أن يُغادر في الفترة نفسها، بسبب الحرب والسجن.
الفيلمان متشابهان في وجهة النظر تلك، وفي اسم الشخصية الرئيسية فرهاد، التي أروي القصّة عبرها. هذه أجزاء متعدّدة منّي. هناك أيضًا زوجة فرهاد، في الفيلم الثاني، التي وجدتُ صعوبة في التحدّث عنها. بدت غريبة، لا تعبّر عن مشاعرها لأني أجهلها. هي تعبير، ربما، عن خمس أو ست نساء في حياتي (مبتسمًا).
(*) أبقيتَ في إيران بعد الثورة؟
- في الفترة الأولى، بقيتُ، بينما غادر أصدقائي جميعهم إلى باريس، المدينة التي يفكر فيها الإيرانيون قبل أية مدينة أخرى، ليس بسبب الحرية السياسية، بل لأنهم يرونها رومانسية جدًا.
(*) في فيلميك بحثٌ عن الشكل، وأسلوب جديد في السرد، أو بالأحرى غير معتاد ونادر في السينما الإيرانية.
- لا أقصد ذلك، ولا أسعى إلى فعل أشياء تهدف إليه. حقًا، لا أنوي إضافة أيّ شيء للسينما الإيرانية، لأني غير قادر على ذلك. لكني سعيد ومحظوظ بالحصول على تمويل، وبفريقَي العمل في الفيلمين. كنتُ قادرًا على فعل ما أرغب فيه. بهذا المعنى، ربما يكون الأمر جديدًا، لأن أحدًا لم يتدخّل في خياراتي ليُعيدني إلى "قوانين" السينما الإيرانية. كنتُ حرًا تمامًا في سرد القصّة كما أريد. ما تقولينه حول "جديد" و"نادر"، ربما يظهر في أسلوب السرد والبناء المعتَمِد كلّيًا على عنصر الزمن، لكن بطريقتين مختلفتين، لا سيما الفيلم الأول، وفيه دمج بأبعاده المختلفة، كما تجمّعت فيه ثلاثة أزمنة مختلفة.
(*) هل لديك تصريح بعرضه من وزارة الثقافة والإرشاد؟ هناك حنين لزمن مضى، زمن ما قبل الثورة.
- كثيرون قالوا لي هذا بعد مُشاهدته. لا أفكّر أبدًا بالماضي، ولا أحنّ لما مضى أو أعجب به. إنه الحاضر بالنسبة إليّ. هناك مرارة لدى شخصياتي أكثر من الحنين.
(*) أجدها شخصيات مجروحة.
- بالضبط. هذا هو التعبير الأنسب.
- أجهل السبب. ربما لأن الناس يثقون بي. يسهل تفسير عمل فيلم ثانٍ بعد نجاح الأول، الذي ساعدني رفاقي على جعل تحقيقه ممكنًا. تكلفة الثاني غالية جدًا، ولا أعرف كيف تمكّنت حقًا من صنعه. نجومٌ عملوا معي مجانًا. في الأول، ساعدني علي مصفا، وعثر على تمويلٍ له.
(*) حضرت العرض مع الجمهور. ماذا تعنيه لك مُشاهدة فيلمك معه؟
- في حضور الفيلم مع الجمهور شيء من أذية للنفس. ألتقط ردود أفعاله، واشعر بحزن وغضب. البعض يتفحّص "إنستغرام" وغيرها خلال المُشاهدة. سألت نفسي: لماذا أبقى هنا؟ يصعب الشرح. لكن، مهمّ دائمًا رؤية الناس وهم يشاهدون قصّتك، رغم ما يُمكن أن يُسبّبه ذلك من أذى. المهم ليس كرههم أو حبّهم. هذه ليست قصّة أحد منهم، بل قصّتي بمعنى ما. إنها أمي لا أم أحد آخر. أنتِ لا تريدين، حين تظهر أمّك على الشاشة، أن يجد أحدٌ هذا مملاً. بهذا المعنى، لا أفرِّق بين الروائي والواقعي، خصوصًا فيما يتعلّق بأمّي. الأمر مختلف بالنسبة إلى بقية الشخصيات.
(*) لديك موقف من الغربة وهجرة البلد. تشير إلى هذا، لا سيما في "أي ساعة هي الآن في دنياك؟"، مع شخصية امرأة إيرانية عادت إلى البلد لزيارته.
- شخصية ليلا حاتمي في "أي ساعة هي الآن في دنياك؟"، تريد العودة إلى إيران، كأصدقاء كثيرين لي، إنْ لوقتٍ قصير أو لفترة طويلة. هي لا تدري أنّ كلّ شيء تغيّر، حتى اللغة. أحيانًا، لا يعرف هؤلاء إنْ كان ما يُقال مُزاحًا أو جدّيًا. يُفضَّل عدم الادّعاء بأننا نعرف كلّ شيء، أو نتذكّر كلّ شيء، لأنّ كلّ شيء تغيّر.
(*) السينما الإيرانية مرتبطة بنوعين من السرد: عباس كيارستمي بشاعريته، وأصغر فرهادي بأسلوب قَصِّه. من يخرج عنهما يلقى صعوبة، ويُعتَبر فيلمه غير إيرانيّ على نحو ما. أهو سوء حظ أو حُسن حظ ّ لها؟ هل حصل معك ما يشير إلى ذلك؟
- تمامًا. ربما يكون هذا سوء حظّ أحيانًا. أنا أحبّ أسلوبي كياروستامي وفرهادي، وما ذكرتِه أنتِ واقعٌ، فهذه قضية الفنّ بعيون أخرى: تنميط السينما الإيرانية في هذين الإطارين، وما هو خارجهما لا يُعتبر سينما إيرانية. أنا سعيدٌ حين أصنع قصّتي الخاصة بي، وأسلوب السرد الخاص بي، ويصعب أن يكون شيئًا يلتقطه الغرب. أبتهج حين يُشَاهَد فيلمي كفيلم قائم بحدّ ذاته. إنه إيراني، لأني صنعته في إيران، لكنّه "فيلم" أولاً.
حين عرضت "أي ساعة هي الآن في دنياك؟" للمرّة الأولى في باريس، قيل لي إنه ليس إيرانيًا. لكن موضوعه الرئيسي من إيران، وهو مُصوَّر فيها، فهل أنّ وجود حوار باللغة الفرنسية فيه يجعله فرنسيًا؟ إيرانيون كثيرون من الشمال مثقفون، وهناك تسمعينهم يقولون شيئًا بالفرنسية أو بالروسية، أحيانًا. هذه مشكلتهم لا مشكلتي. لم أكن مستعجلاً لصنع فيلم، فأنا بدأت هذا مع بلوغي 51 عامًا، ولا أرغب في أن أكون شخصًا مهمًّا. أنا سعيد بتواجدي في المهرجانات، وبعروضٍ جماهيرية. لكن هذا ليس هدفي، فهدفي أن أروي قصّة كما أرغب، وبهذا المعنى ربما لا أكون مُحترفًا. إذا لم ينجح فيلمي في مهرجانٍ أو في عروض داخل إيران، ربما يكون صعبًا الحصول على تمويل لفيلمي الثالث.
من المُحزن أنْ تؤطَّر السينما الإيرانية في هذين الإطارين، لأن من يفعل هذا لا يعطي نفسه فرصة لاكتشاف شيء آخر جديد. لا يُقال هذا عن السينما الأخرى. أنا إيراني، والمكان إيراني، وأناس كثيرون في إيران يعيشون هكذا، كما يعيش الناس في باريس، يشربون الخمرة ويأكلون. هذه إيران: تركيبة من الشرق والغرب والإسلام.
(*) كيف تحوّلت من النقد السينمائي إلى الإخراج؟
- لم أكن ناقدًا بل كاتبًا. لم أكتب كلمة واحدة سلبية عن السينما. لا أقول مثلاً إنّ "ممثلة بالغت في الأداء"، أو أنّ "هذا الفيلم طويل أو قصير". بهذا المعنى، أنا لستُ ناقدًا. "لسنا أطباء" لنشير إلى ما هو غير صحيح أو سليم في الجسد. كتبتُ مقالةً تحت هذا العنوان. أكتبُ فقط عن السينما التي أحبّ، وأنجز أفلامًا عن قصص أحبّها، ولم أتناول كثيرًا السينما الإيرانية.
(*) هل تشاهد السينما الإيرانية؟ هناك تبدّلات تطرأ عليها اليوم.
- لا أشاهدها كثيرًا، لكني أشعر أن ظلّ كياروستامي زال لسوء الحظ، ليس لأن تأثيره ذهب، بل لأنه هو لم يعد هنا. هذا العام، شاهدتُ أفلامًا عديدة، يُمكن القول معها إن تأثير فرهادي يزول هو الآخر. فرهادي نفسه لم يعد مخرجًا إيرانيًا بل عالميًا. هناك تحوّل الآن نحو سينما أخرى، لا أدري بعد كيف ستكون. لستُ خبيرًا، لكنك تبدين هكذا (يضحك).