أوصافٌ وتعليقات نقدية مختلفة، تجعل "طفيليّ" للكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو نموذجًا لكيفية مزج أنواع سينمائية مختلفة في فيلمٍ واحد، ولكيفية تحويل السخرية إلى فضحٍ وتعرية لاجتماع وعلاقات، ولكيفية صُنع مرايا تكشف بعض المبطّن في بيئات وأنماط عيش.
ذلك أنّ "طفيليّ" (Parasite)، الفائز بـ"السعفة الذهبيّة" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، تأمّلٌ عميق في أحوالٍ فردية، وفي مصائب تخترق عوالم فقراء فتدفعهم إلى ابتكار أعنف ابتذالٍ ممكن، لتحقيق أمانٍ مالي واجتماعي وإنساني، عبر أسوأ الأدوات. والفيلم الأخير هذا لجون ـ هو، المعروض في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، يستعين بالسخرية للفضح والتعرية، قبل أن يُصاب بعطبٍ سينمائيّ في الدقائق الأخيرة منه، التي تحوّله إلى خطابٍ مباشر وسطحيّ، بدلاً من ابتكار نهاية معلّقة ومفتوحة، تترك المُشاهد ـ بعد نحو 120 دقيقة من المُتع والضحك والتألم (مدّة الفيلم 132 دقيقة) ـ يصنع لذاته نهاية تلائم مزاجه وأهواءه وتوجّساته وهواجسه، أو تلائم المسارات المختلفة للشخصيات ولمصائرها، تلك المسارات المصنوعة ببراعة سينمائية مؤثّرة وبديعة.
"عائلة من دون قرش تخترق يوميات عائلة بورجوازية، فينقلب كلّ شيء رأسًا على عقب. بونغ جون ـ هو يُشيّد "خُرافة" اجتماعية تُرهِب بقدر ما تُسلّي، في فيلمٍ رائع باتقانه". بهذه الكلمات، يُعلِّق تييري جوسّ على "طفيليّ"، في مقالة له منشورة في المجلة الأسبوعية الفرنسية Les Inrockuptibles في 31 مايو/ أيار 2019. تعليق يصف حالة، ويختزل عالمًا، ويُكثِّف تفاصيل وحكايات وحالاتٍ، تنتهي كلّها قبل المشهد الختاميّ، الذي ينتقل إلى قولٍ مباشر يوجّهه الابن إلى أبيه، بعد "المذبحة" الحاصلة في احتفال العائلة البورجوازية الثريّة، في الحديقة الخلفية لمنزلها الفخم. أما يانيك فيلي، فيقول إنّ "طفيليّ" ينتقل من الكوميديا الاجتماعية إلى الكوميديا السوداء، ثم إلى فيلم رعب ففيلم كارثة، "مع إتقانٍ وسلاسة مُدهشين، ومَشاهد منذورة لأن تُصبح معشوقة (الملايين)". (المجلة الأسبوعية الفرنسية "باري ماتش"، 4 يونيو/ حزيران 2019).
الأوصاف عديدة: "سيناريو مُذهل"، "فيلم متجرّد"، "تُحفة" (عنوان مقالة لبنجامن بوييك، منشورة في الصحيفة اليومية الفرنسية "لو فيغارو"، 7 يونيو/ حزيران 2019). هذا مقتضب. لكن الاقتضاب لن يحول دون التمتّع بفيلمٍ يُناقض تمامًا الفيلم السابق للمخرج نفسه "أوكجا" (2017)، التجاري البحت، المُنتَج بفضل المنصّة الأميركية "نتفليكس". تناقض يكشف براعة مخرج في اختبار أنواع وأشكال وآليات اشتغال عديدة، فيُنجز أفلامًا تمتلك حساسيتها السينمائية، وإنْ بتفاوتٍ في مستويات التعبير البصري عن تلك الحساسية. وإذْ يندرج "أوكجا" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ في إطارٍ تجاري، يمزج بدوره بين أنماط مختلفة، كأفلام الأطفال والمغامرة والنقد الاجتماعي والاقتصادي؛ فإنّ "طفيليّ" يبدو كمن يرفض التوقّف عن الانتقاد الحاد لبيئة اجتماعيةـ اقتصادية ولعالمٍ بشريّ، كما لنفوسٍ معطوبة (بالفقر أو الثراء الفاحش) ولأرواحٍ هائمة في متاهات وكوابيس وانشقاقات ومخاوف مبطّنة وخفيّة.
باختصار شديد، يروي "طفيليّ" حكاية عائلة فقيرة تعاني الأمرّين للحصول على لقمة عيش، بينما أفرادها الـ4 (الوالدان والابن والابنة)، خصوصًا الابن وشقيقته، مولعون بأجهزة الهواتف الذكية، و"يسرقون" الـ"إنترنت" من الجيران، هم المُقيمين في منزل تحت مستوى الأرض. صديق للابن يُخبره أنّ عائلة ثرية محتاجة إلى مدرِّس لابنتها، فيوصي به رغم أنه غير حامل لأية شهادة جامعية، لكن "عبقرية" الشقيقة كفيلةٌ بتبديد هذا العائق، فالتزوير طريق إلى المنزل الفخم للعائلة، الذي يدخله الابن بوصفه مُدرِّسًا، قبل أن يتحوّل إلى "حصان طروادة"، يُتيح لأفراد عائلته جميعهم احتلال مناصب مختلفة في عالم العائلة الثرية، المؤلّفة هي أيضًا من أبوين وابن وابنة.
اختراقات واحتيالات وإمساك بزمام الامور كلّها لتلك العائلة الثرية، الغارقة في ثرائها الحاجب عنها مسائل وتفاصيل. لكن، في ذروة "انتصار" الفقير على الثريّ، تظهر الخادمة السابقة، المطرودة من المنزل الثريّ بفضل احتيال العائلة الفقيرة عليها، طالبة الدخول إلى المنزل لحاجة تريدها. الأثرياء غائبون. الفقراء يحتفلون باحتلالهم المنزل والعالم الثريّين. ظهور الخادمة السابقة إقلاق راحة لهم، وخوف من كشف الرابط العائلي بينهم، إذْ لن يعرف الأثرياء أنّ العاملين الجدد لديهم يُشكّلون عائلة واحدة.
ماذا تريد الخادمة السابقة؟ طلبها انقلاب فعلي في المسارات كلّها: سينمائيًا، يبدأ نوعٌ جديد في الظهور، بديلاً عن الكوميديا والمغامرات المضحكة. دراميًا، يبدأ نزاع مرير بين الفقراء أنفسهم (أفراد العائلة والخادمة السابقة)، يعكس وحشية العنف الدموي بينهم، ويكشف أنّ صراعًا كهذا لن يكون حكرًا على مواجهات طبقية بين الناس، إذْ يُمكن لأبناء الطبقة الواحدة أن يعتمدوا أسوأ الممارسات بين بعضهم البعض. فالخادمة السابقة تُخفي زوجها في قبو المنزل الثريّ منذ أعوام، وتريد الاهتمام به بعد طردها. يندلع النزاع، ويتمدّد إلى خارج القبو، وتحاول العائلة الفقيرة الانتصار على الزوجين الفقيرين، وإنْ باستخدام القتل.
تفاصيل كثيرة مثيرة للاهتمام، لكن النتيجة قاسية وحادة وواقعية، ومُصوّرة بجماليات سينمائية: يخرج الوحش من داخل القبو، فتبدأ مجزرة رهيبة، يُشارك بعض أفراد العائلة الفقيرة فيها منعًا لـ"كشف المستور".
صراع طفيليين يتحوّل إلى جمالية سينمائية، في قراءة واقع وحالات، بلغة انتقادية قاسية، تُغلّفها الكوميديا، قبل أن تتحوّل إلى عنفٍ وقتل.