بعد أن باتت أصوات اليمين طاغية، اجتماعيًا وحزبيًا وسلطويًا، في الغرب؛ ولأن خطاب الكراهية والتحريض والعنصرية الفجّة لم يعدّ يقضّ مضاجع اليسار أو الوسط أو أصحاب الفكر المستنير المعتدل؛ وبعد توهان الأصوات العقلانية المنادية بالتسامح والعيش المشترك والقبول؛ أمسى الإرهاب الجماعي أو الفردي الخطرَ الوحيد والحقيقي، الذي يهدِّد بنية المجتمعات الغربية وسلامتها، وهي لم تعهد خطرًا كهذا سابقًا.
فنانون كثيرون حذّروا من الشحن المتفاقم، ومن عدم معالجة المشاكل من جذورها، ومن الوتيرة المتزايدة لما يحدث الآن، وخطره على المستقبل. لكن الأمر لا يقتصر على دول محدّدة فقط، فهناك بلاد هادئة تخلو من المشاكل تقريبًا، باتت تعاني خطر التطرّف واليمين العنصري.
قبل عامين، أطلق الفنلندي آكي كوريسماكي صرخة تحذير من خطر التطرّف العنصري ضد المهاجرين في بلده، في "الجانب الآخر من الأمل" (2017).
هذا العام، علت الصرخة من الدنمارك، وهي لعلاء سليم، أحد أبناء الجيل الأول لمهاجرين عراقيين. له 6 أفلام قصيرة، روائية ووثائقية، تناولت غالبيتها مشكلة ازدواج الهوية في المجتمعات الأوروبية عامة، والدنمارك خاصّة. بعدها، أخرج فيلمه الروائي الأول "أبناء الدنمارك" (2018): صرخة تحذير من خطر ينجرف إليه المجتمع الدنماركي، يتمثّل بشحن وتعصّب وعنصرية، ستفضي، لا محالة، إلى تفشّي الإرهاب في المجتمع. والإرهاب، الذي يحذّر منه علاء سليم (1987)، غير مقتصر على طرف واحد، فهو يمين دنماركي أو عربي ـ إسلامي، وهو سيؤدّي إلى تحوّل شخصيات مُسالمة، تتبنّى لغة الحوار والتسامح، إلى النقيض. هذا تُظهره نهاية الفيلم (سيناريو علاء سليم أيضًا، الذي له حضور لافت للانتباه، كتابة وإخراجًا).
موضوع "أبناء الدنمارك" ـ المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ48 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"ـ وموهبة مخرجه لفتا الأنظار بشدّة، نقديًا وجماهيريًا. فنيًا، نجح سليم في صنع قصّة درامية جيّدة، مليئة بالإثارة والتشويق. شخصياتها عميقة، وإن عاب الأداء التمثيلي قصور في فترات كثيرة. كذلك، كان يُمكن التحكّم في إيقاع الفيلم، إذْ كان ضروريًا اختزال أحداث ولقطات مباشرة أو مملة بهدف التكثيف والوصول مباشرة إلى صلب الموضوع، الذي ـ رغم ملابساته الشائكة، خاصة أن من يطرحه وافدٌ لا دنماركي الجذور ـ يتناوله سليم بعمق وتوازن.
في تناوله الموضوع، أظهر علاء سليم إدانة ولومًا وتقصيرًا للجانب الدنماركي، أمنيًا وسياسيًا. هذا ميل لديه للإعلان عن صرخة إزاء ما ينجرف إليه المجتمع أمام عيون رجال الأمن والسياسة. "أبناء الدنمارك" إنتاج دنماركي أساسًا، وهذا يدلّ أولاً على تفهّمٍ شديد لطرح المخرج وأهمية ما يطرحه، وثانيًا على وعي بخطورة الأوضاع أو بما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً.
اختار علاء سليم عام 2025 زمنًا لأحداث فيلمه. للتاريخ دلالة، فهو ليس بعيدًا ولا قريبًا. أي أنه يُمكن تدارك المأزق في أعوام قليلة، وإلاّ فستخرج الأمور عن السيطرة. يبدأ "أبناء الدنمارك" حلقته وينهيها من منطلق الأذى الشخصي الذي يتعرّض له الفرد. هناك من يفقد حبيبته، بعد وداعها بدقائق قليلة، بانفجار قنبلة في محطة مترو في كوبنهاغن، أودت بحياة 23 شخصًا. وهناك ضابط دنماركي، عربي مسلم، مالك أمين (زكي يوسف)، الذي يفقد ابنه الوحيد، وتُصاب زوجته بتشوّه الوجه، بسبب مادة كاوية، إثر هجوم خلية "أبناء الدنمارك" على مسكنه.
مُبرّرات ربما تكون ساذجة دراميًا. لكن لها جذور في الواقع، وهي حتمًا ليست أسسًا يقوم عليها العنف والكراهية والعنصرية والإرهاب، وغيرها، في المجتمعات العربية، كما في جالياتها في الخارج، أو تلك المنتشرة والمتنامية في المجتمعات الأوروبية. الأمر أعمق وأعقد، وأكثر تشابكًا من مجرّد أحداث فردية انتقامية، تدفع المرء إلى اعتناق التطرّف أو العنصرية، أو تُروِّج للإرهاب. زكريا أيوب (محمد إسماعيل محمد)، عراقي يبلغ 19 عامًا، يشعر بالخوف بعد حادث الانفجار بعام. إذْ بدأ المتطرّفون (بعضهم منتمٍ إلى خلية "أبناء الدنمارك")، يهاجمون المساكن وأماكن العمل وتجمّعات العرب والأعراق الأخرى. يُغذّي هذا الرعب خوفه البالغ على والدته وشقيقه الأصغر. مع تعاقب الأحداث، تنكشف قصّة فرارهم من العراق. يرغب زكريا، العاطل عن العمل والدراسة، في القيام بشيء ربما يوقف الهجمات، ويقضي على الرعب. زكريا لا يتبنّى ولا يعتنق فكرًا سياسيًا أو دينيًا، كما أنه لا يصلّي. لديه غضب مكبوت في ذات مُراهقٍ يرى الغرب صامتًا ومتعاميًا عما يحدث للعرب والمسلمين، بينما هو (الغرب)، من وجهة نظره، سبب المآسي والحروب التي تتعرّض لها البلاد العربية والإسلامية، ما يستدعي معاقبته.
خلية "أبناء الدنمارك" تتغذّى أساسًا من فكر المُتطرف مارك نوردهال (راسموس بيرغ)، العنصري المتشدّد ضد أي لون أو بشرة غير أوروبيين حتى النخاع. يتدرَّج في مناصب توصله إلى رئاسة حزب "الحركة القومية"، المُنادي بطرد المهاجرين وغير الأوروبيين من الدنمارك. خطابه يلقى تجاوبًا كبيرًا، فيعزف على الوتر أكثر ليُلهب المشاعر، ويكسب مزيدًا من المؤيدين للحزب. النتيجة: ازدياد جماهيرية الحزب، واتساع قاعدته، وبالتالي ازدياد عنف الهجمات.
يُجنَّد زكريا لقتل مارك، لكنه يفشل بسبب مالك، فيُصبح مارك مدينًا لمالك بحياته. يزروه في منزله ويشكره: "إنه ليس كغيره. ليس منهم. ليس من المقصودين بكلامه". لاحقًا، يطلب مارك صراحة، وبعنصرية فجة، بطرد كل من ليس أوروبيًا من الدنمارك: "الحرب انتهت في بلادهم. استضفناهم وأكرمناهم. لا ننتظر منهم شكرًا ولا تقديرًا، فقط العودة"، يقول في حوار تلفزيوني قبل الانتخابات البرلمانية. يصرّح أنه، إنْ ينجح فيها، سيصدر تشريعات، يتعلّق بعضها بسحب الجنسية، وإطلاق الشرطة والقضاء عليهم.
مالك، المنقول إلى بلدة أخرى، يُكلَّف بالتنصّت على مكالمات خلية "أبناء الدنمارك"، فيكتشف سريعًا علاقة مارك بهم، وتحريكه إياهم وتوجيههم، بشكل أو بآخر. يطلب توقيفه، أو اتّخاذ إجراءات ضد الخلية. يرفض رئيسه، الذي يُغلق ملف الخلية والتنصّت عليها، أو بالأحرى يُقرّر "تعليقًا مؤقّتًا" لملاحقتها، لضرورات أمنية متعلّقة بخطر أكبر، مرتبط بتنظيمات إسلامية يجب اختراقها. يفوز مارك في الانتخابات، ويفقد مالك ابنه، ويتشوّه وجه زوجته، ما يدفعه، هو الضابط المُطيع خادم الدنمارك ومُنقذ حياة مارك، إلى اغتياله، انتقامًا لابنه وزوجته.