كما عرفت مصر شركات الأسطوانات، التي سجلت غناء أعلام طرب هذه النهضة، من أمثال الشيخ يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسلامة حجازي، وسيد الصفتي وزكي مراد ومنيرة المهدية، وصولاً إلى صالح عبد الحي. وقد خلف هؤلاء الأعلام ثروة ضخمة من التسجيلات النفيسة لم تجد حتى الآن جهة رسمية مصرية تحفظها وتوثقها وتؤرشفها، وتدرسها. ولولا جهود فردية للهواة على الإنترنت، لضاع معظم هذا التراث، ضحية التجاهل والإهمال.
حالة من الانقطاع التام، تكاد تكون مفروضة على الأجيال المتعاقبة منذ 23 يوليو/تموز 1952، مع طرب عصر النهضة وأعلامه، وبترسيخ مستمر لفكرة أن الغناء المصري ابتدأ بسيد درويش، وأن ما قبله لم يكن إلا ألحاناً مملة مكررة خالية من التعبير، تتسم بالبطء وتجلب السآمة والملل.
لا تبث الإذاعة المصرية أبداً تسجيلات عصر النهضة إلا من خلال برامج تسبغ كل أوصاف القدم المتحفي على هذه الأعمال، وعندما أنشئ التلفزيون المصري عام 1960، وسجل لمن بقي من هؤلاء المطربين، وعلى رأسهم صالح عبد الحي وعباس البليدي، أظهرهم "مطربشين" هم وأعضاء الفرقة الموسيقية والمرددين. بالرغم من أن الطربوش كان قد اختفى من مصر في هذا التوقيت، لكنه الإصرار على تصدير طرب النهضة في صورة معينة، باعتباره تراثاً لـ "الفرجة" وليس للمتعة الفنية.
تاريخياً، عرفت مصر شركات الأسطوانات مبكراً، بين عامي 1895 و1898، وكان أولها شركة سليندرز، التي سجلت صوت عبده الحامولي على ما يعرف بأسطوانات "الكوباية"، وهي أسطوانات شمعية بدائية التقنية، ومع التطوير أصبح التسجيل يتم على أقراص مفلطحة، لكن بقي اسم "الأسطوانة" لصيقاً بها بسبب شكلها الأول.
ثم توالت على مصر شركات متعددة، منها "غرامافون"، و"زينوفون"، و"بيضافون"، و"كولومبيا"، و"أوديون"، وغيرها. تنافست هذه الشركات في التعاقد مع كبار المطربين المشهورين في مصر، بعد رحيل كل من محمد عثمان وعبده الحامولي على التوالي عامي 1900 و1901، وبالطبع كان على رأس هؤلاء المطربين الشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي أفندي حلمي.
بالطبع، استلزم طبع الأسطوانات انتشار أجهزة الفونوغراف، في بيوت الأثرياء والأعيان، والمهتمين بالفن، وحققت شركات التسجيلات مكاسب كبيرة جداً، خلال نحو ثلاثة عقود، ولا سيما مع ظهور عبد الوهاب وأم كلثوم التي سجلت منولوج "إن كنت أسامح" من ألحان محمد القصبجي؛ فباع ربع مليون نسخة على أقل تقدير، وربما لم تتأثر تجارة الأسطوانات كثيراً بظهور بعض الإذاعات الأهلية، لكن مع افتتاح الإذاعة المصرية الحكومية عام 1934، بدأ الإقبال على الأسطوانة يأخذ طريقه للتراجع، ولا سيما مع الانتشار المضطرد لأجهزة الراديو.
خلال نحو 35 عاماً من عمل شركات الأسطوانات في مصر، سُجل عدد ربما يجاوز عشرة آلاف أسطوانة، لكل مطربي عصر النهضة، من أمثال يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي، وسليمان أبو داود، وسيد الصفطي، وأبو العلا محمد، وعبد اللطيف البنا، وسيد درويش، وزكي مراد، وصالح عبد الحي، ومنيرة المهدية وفتحية أحمد وسكينة حسن، وغيرهم، وصولاً إلى عبد الوهاب وأم كلثوم.
تضمنت هذه التسجيلات كل أشكال وقوالب الغناء الكلاسيكي، وعلى رأسها القصيدة، والدور، والموشح، والطقطوقة، والموال، والمنولوغ، والمحاورة الغنائية، كما تضمنت أيضاً أعمالاً آلية لكبار العازفين، ولا سيما التقاسيم على آلات العود والقانون والكمان.
وقد تباين اهتمام مطربي عصر النهضة بكل قالب غنائي، فبينما يُعرض يوسف المنيلاوي عن غناء الطقطوقة، يكثر منها زكي مراد، ويكاد يتخصص فيها عبد اللطيف البنا، في حين يحرص عبد الحي حلمي على غناء كل القوالب، وكذلك فعل من بعده ابن أخته صالح عبد الحي. وفي هذه الحقبة سجلت كل أعمال سيد درويش، وكل أدوار عبد الوهاب، وكذلك كل أدوار أم كلثوم التسعة عشر.
حوى طرب عصر النهضة جماليات فائقة في الطرب والأداء الفذ الصعب المعتمد على قوة الصوت والزخرفة والحليات والعُرب والارتجال، ولم يخل خلواً تاماً من التعبير كما يزعم بعض من لم يدرسوه دراسة متأنية، صحيح أن مساحة التعبير زادت كثيراً بعد ظهور سيد درويش، لكن الشيخ سيد لم ينطلق إطلاقا من فراغ، ولم يكن منقطعاً عمن قبله. كان عبقرياً، اختزن وأضاف، وجاءت أدواره ملتزمة بالشكل الذي رسخه محمد عثمان، الذي أعلى بناء صرح الدور شاهقاً.
هذه الثروة الضخمة والعظيمة والمهمة من التسجيلات، وهذا الطرب الكلاسيكي الذي يعتبره كثير من الباحثين الغربيين أنه الممثل الحقيقي لما يمكن أن نسميه "الغناء الراقي"، ما زال حتى اليوم لا يجد في مصر من يهتم به بالمستوى اللائق. فلا مكان يمكن أن تقصده إذا أردت الاطلاع على هذا التراث، ولا مؤسسة تهتم بجمعه وتوثيقه وأرشفته، ومن الغريب أن الاهتمام الأكبر جاء من خارج مصر، وتحديداً في بيروت، من خلال مؤسسة التوثيق الموسيقي اللبنانية، التي تمتلك اليوم ما يجاوز ثمانية آلاف أسطوانة جلها لأعلام الطرب والغناء والموسيقى المصرية في عصر نهضتها.
وبالرغم من أن المؤسسة قامت بمبادرة أهلية، خارج النطاق الحكومي، إلا أنها تمارس دوراً كبيراً في تقديم هذا التراث ودراسته وحفظه. وفي عام 2011، احتفلت المؤسسة بمئوية الشيخ يوسف المنيلاوي، وأصدرت كتاباً عن هذا المطرب الفذ، مصحوباً بأسطوانات تشمل كل أعماله التي وصلتنا بعد تنقيتها صوتياً بأحدث الأساليب.
كان المؤرخ الموسيقي عبد العزيز عناني (1925- 2000) صاحب أكبر مكتبة أسطوانات في مصر، إذ جمع في حياته نحو سبعة آلاف أسطوانة لأعلام طرب عصر النهضة، ولقد آلت هذه المكتبة الضخمة إلى مؤسسة التوثيق الموسيقي اللبنانية، لكن هذا لم يكن إلا لزهد المؤسسات الثقافية والفنية في مصر في هذا التراث.
بعد رحيل عناني، أصبح محمد الباز، أستاذ طب الأطفال في جامعة القاهرة، وأحد أهم جامعي التراث الغنائي النهضوي، صاحب أكبر مكتبة للأسطوانات، حيث تجاوزت مجموعته ثلاثة آلاف أسطوانة أصلية لرواد الطرب، مع عدد كبير من أجهزة الفنوغراف القديمة بمختلف طرزها، وصار بيت الرجل مقصداً لكل المهتمين بالتراث الغنائي من مصر وخارجها.
سألنا الباز: إلى أين تذهب هذه المجموعة الضخمة من الأسطوانات بعد عمر طويل؟ فأجابنا الرجل من فوره: "لا أحد من أولادي أو أسرتي يهتم بهذا التراث بأي شكل، ويعتبرون هذه الأسطوانات "كراكيب" تزحم البيت من دون داع"، ثم أضاف وهو يبتسم: "سيلقون بها في الشارع فوراً".
يروي الباز تجربته المريرة ومعاينته لإهمال قسم الأسطوانات في دار الكتب والوثائق المصرية، التي يحوي نحو أربعة آلاف أسطوانة تعاني الإهمال والتلف كل يوم، رغم حاجتها إلى العناية الدائمة، فأكثرها تجاوز عمره 100 عام. يبدى الرجل حسرته على بيع مكتبة عناني، بمبلغ لم يجاوز 40 ألف دولار، إذ كان الأولى بالدولة ومؤسساتها الثقافية أن تشتري هذا الكنز الفني والتاريخي الضخم.