يروي "في عينيا" (2018)، ثالث روائيّ طويل للتونسي نجيب بلقاضي، حكاية أبٍ (نضال السعدي) يعود من المهجر الفرنسي إلى بلده تونس، بسبب إصابة زوجته بجلطة دماغية، بعد 10 أعوام على تخلّيه عنها، وعن ابنهما المُصاب بالتوحّد. يجد الأب نفسه في دوّامة اجتماعية تتقاذفه فيها رياح علاقة أبوّة مشروخة، يحاول جمع شظاياها، فيصطدم بواقع التوحّد وصعوباته، وبنظرة المجتمع القاسية لكلّ ما هو مختلف. فاز السعدي بجائزة أفضل ممثل، عن دوره هذا، في الدورة الـ17 (30 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2018) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش" (المغرب).
"في عينيا" فيلمٌ حول النظرة أولاً. فانطلاقًا من تفصيل يفسِّر العنوان، عن عدم قدرة الطفل على النظر في عيون الآخرين، وهذه أول إشارة إلى الإصابة بالتوحّد، وصولاً إلى مرحلة اعتبار النظرة منطلقًا للحلّ، يقوم بلقاضي بعملية "تقعير" (La Mise En Abyme) بارع، مع حمل الأب الكاميرا لتصوير ابنه، وتوليفه الصُوَر، متقمِّصًا دور مخرجٍ ثانٍ أمام الكاميرا. ثمّ مشهد الختام البديع (لن نفصح عنه تفاديًا لعدم حرق التشويق)، الذي يدفع هذا التصوّر إلى أبعد مدى.
أما نقطة قوّة الفيلم، فتكمن في نزعته إلى الإيحاء، وما يترتّب عنها من اختيارات ذكيّة، أبرزها اعتماد مونتاجٍ اختزاليّ، منح الفيلم تماسكًا وإيقاعًا يثيران الانتباه.
بمناسبة فيلمه الجديد هذا، أجرت "العربي الجديد" حوارًا مع نجيب بلقاضي.
(*) لنبدأ بتكوين الفيلم. ما هي نقطة انطلاق فكرة "في عينيا"؟
- بعد فيلمي السابق، "باستاردو" (2013)، بدأت كتابة قصة أخرى مختلفة تمامًا. كنت منشغلاً بها. في أحد الأيام، استيقظتُ صباحًا، وفتحت "فيسبوك"، فشاهدتُ صُوَرًا لتيموتي أرشيبالد، منشورة في صفحة صديق لي. المُصوّر أميركي من سان فرنسيسكو، استمتع بالتقاط صُوَر لابنه المُصاب بالتوحّد. أثارت الصُوَر فيّ ردّ فعلٍ عاطفيا قويا. فكّرت: "هناك بداية شيء ما". هذه نقطة تحوّل، منها بدأتُ أتعلّم عن متلازمة التوحّد. وجدت نفسي أدرس موضوعًا واسعًا وضخمًا، كلّما غصت فيه، أنبهر أكثر. بدأتُ أبحث عن وثائق، وأقرأ كتبًا ومقالات، وأتحدّث مع مُربّين وأولياء أمور الأطفال.
المعبر الإلزامي كامنٌ في الذهاب إلى مركز الأطفال المُصابين بالتوحّد. هناك، كنتُ اتابع حالات 15 طفلاً. كنتُ أراقبهم وأصوّرهم. ثم كان هناك طفلٌ بالذات. تابعته كثيرًا. صنعت عنه فيلمًا صغيرًا. هو ألهمني شخصية يوسف في الفيلم. إذًا، إنه شخصية حقيقية، مع القوالب النمطية والحركية الدقيقة والتعبيرات نفسها.
هناك تفاصيل كثيرة في الفيلم استقيتها من الآباء والمُربّين. مثلاً، أخبرني مُربٍّ أنّ 50 في المائة من الآباء التونسيين يغادرون المنزل بعد التشخيص، لأنهم لا يستطيعون مواجهة الموقف. هذه شخصية لطفي، الذي ترك عائلته، ثم عاد إليها في بداية الفيلم. هذا يقودنا إلى الحديث عن قبول الاختلاف، وكيف أنّ الآباء ينتظرون من أطفالهم أن يكونوا نسخة كربونية عنهم، وعندما لا يكون الأمر كذلك يفرّون.
(*) مع شخصية الأب، فعلتَ شيئًا أرى أنّه بمثابة "تقعير" (La Mise En Abyme) لعملك كمخرج: يُصوّر أفلامًا لابنه، ثم يُولّفها ويعرضها له.
- نعم. يلتقط من الأفلام "فوتوغرامات"، ويطبعها على شكل صُوَر أيضًا. يُخلّد لحظات التواطؤ التي تولّدت مع ابنه. أعتقد أنّ هذا مهمّ للغاية، لأنّ هناك كاميرا مزدوجة في الفيلم: الكاميرا التي أديرها، أي الكاميرا التي تروي الفيلم، وكاميرا أخرى لها نطاق آخر، أجد أنه أهمّ، لأنها تُلفِت انتباه الطفل، وتربطه بوالده، وتفتح أحدهما على الآخر. هناك صُوَر عديدة في الفيلم. يكتشف الرجل ماضي زوجته بسبب صُوَر ومقاطع فيديو موجودة في هاتفها المحمول. يكتشف أنّ شخصًا آخر حلّ مكانه، ليس في السرير فقط، بل في قلب طفله وعينيه.
بُنِيَ الفيلم كلّه حول إنشاء رابط مع هذا الطفل. لا يُقال هذا بوضوح فيه، لكننا نخمّنه. حتى مَشاهد "سكايب" مصنوعة بهذا المنظور. هذا سبب في أنّي اخترت وضع أشرطة الفيديو في الفيلم على الشاشة كلّها. كان يجب أن أكون في رأس الشخصية، لا خارجها. هذا يعني أنّي بديل عن نظرته، نوعًا ما.
(*) بالتأكيد. مسألة النظرة أساسية في الفيلم، كما يشير العنوان إلى ذلك. إنها إحدى طرق تشخيص مرض التوحّد. ما يعجبني هو أن الفيلم بأكمله، حتى خياراته الشكليّة، مبنيٌّ على هذا التفصيل.
- تمامًا. هذا يعطي الفيلم جانبًا هشًّا للغاية. في الحقيقة، وجدتُ نفسي أصنع فيلمًا على عكس "باستاردو"، الذي كان نوعًا من آلة كبيرة، أو وحشًا. فيلمٌ أُبحر فيه عمليًا من دون نظّارات رؤية عن بعد. بمعنى أنّي كنتُ أعرف فقط الأشياء التي لم أكن أريدها. مونتاجيًا، أدركتُ هشاشة الفيلم في المستويات كلّها، وكيف أنّه لا يحتمل الإضافات، ولا موسيقى كثيرة، ولا أن يتمّ التسطير على المشاعر.
لهذا الفيلم وجودٌ مستقلّ تقريبًا عن وجهة نظري، رغم أنّ هذه الأخيرة موجودة لأنّي كتبته وصوّرته، لكنه، في لحظة ما، هرب مني ووضعني في موقف شعرتُ فيه أنّي "لاعب توازن" في سيرك، يمشي على خيط مشدود. هذا يعني أنّه كان يُمكن أنْ يقع في الميلودراما مثلاً. كان صعبا للغاية القيام بهذا، خصوصًا فيما يتعلّق بالمونتاج، الذي كان ممارسة صعبة للغاية. اضطررت إلى قطع مَشَاهد الانتقال للحصول على إيقاعٍ سريع للغاية، وتلافي التأخير.
(*) نعم. هناك حذف واختزال كثيران في الفيلم.
- بالضبط. أردتُ مونتاجًا اختزاليًا للغاية، لسببين: بصرف النظر عن مسألة الإيقاع، كنتُ أرغب في الحصول على فيلم يسبق الجمهور دائمًا. في هذا الإطار، أخبرني نقّاد أنهم يقتربون من نهايته ويظلّون يتساءلون: "كيف سينتهي؟". كلّما تقدّموا فيه، شعروا أنّهم يغوصون في زاوية ميتة نوعًا ما، وأنّ اختيار نهاية غير مناسبة ربما يدمّره تمامًا.
من ناحية أخرى، أردتُ محو فكرة الزمن. نقول لأنفسنا: "كم بقوا معًا؟". يطرح الجميع هذا السؤال، وأنا لا أريد الإجابة عنه. بالنسبة إليّ، هذه لحظة حياة صرفة، يمكن أن تكون طويلة أو قصيرة.
(*) شعورٌ ذاتيّ نوعًا ما.
- بالضبط. هذا يعني أن كلّ شخص سيشعر به بطريقته الخاصة.
(*) ماذا عن السيناريو: هل تطوّر أثناء التصوير؟
- بالطبع تطوّر. هناك نسخ عديدة ونهاية مختلفة تمامًا. تعاونت معي قارئة رائعة اسمها غاليا لاكروا، عملت على مونتاج وسيناريو أفلام لعبد اللطيف كشيش. تعرف الموضوع جيدًا. ساعدتني كثيرًا في أن أرى بوضوح أكبر وضع الشخصيات، مقارنة بالآخرين، وإزاء التوحّد. كتبنا نسخًا عديدة، لكن السيناريو بالنسبة إليّ ليس مُقدّسًا أبدًا، بل كائنًا حيًّا. يبقى هكذا إلى أن نقول: "حسنًا، لنتوقف عن المونتاج".
بالنسبة إليّ، يجب أن يكون الفيلم كائنًا حيًا، وأن يفلت من المخرج قليلاً في لحظة معينة، ويبدأ عيش حياته وفق إيقاع خاص به. هذا الفيلم فرض عليّ إيقاعه بشكل قويّ. كان لدي انطباعٌ بأنّي إزاء كيان حيّ موجود، يقول لي: "أنا هنا. أنا موجود". أعتقد أن كتابته تمّت فعليًا أثناء المونتاج. مثلاً، حضر التأثير الاختزالي في السيناريو، لكن في المونتاج، دفعناه بعيدًا عبر القطع في "عَظْمِه". هناك اختزال يتحدّث عنه الجميع، عندما يكون الأب في ملهى ليلي، ثم نقطع، ونراهن بمخاطرة كبيرة لاختيار مونتاج بالتوالي. بفعل الاختزال، لا نعرف ما حدث للفتاة، ثم يتبع هذا حدثٌ كبيرٌ: فقدان الطفل في الغابة. لا نُظهر شيئًا. نسمع ما يحدث خارج الحقل، إنهم رجال الشرطة الذين يصلون مع الأب والعم اللذين يدخلان الغابة. الأمر محفوفٌ بالمخاطر، لكنّي أعتقد أنه اشتغل جيّدًا، لأن المُشاهدين يرتبكون جدًا أمام ما يحدث، ويتساءلون: "أين نحن؟". يشعرون بالضياع، كالطفل. هناك وقت، بين 15 و20 ثانية، لا نعرف فيها أين نحن، ثم نبدأ الفهم. أنا معجب بهذا فعليًا. أودّ حقًا أن يكون السرد بهذه الطريقة، مفاجئًا وخامًا.
(*) ما يُصعّب المونتاج أيضًا تحديد ما يبقى في الفيلم وما يُحذف. ما المُحدّد لديك في هذه العملية؟
- تمّ ذلك بطريقة طبيعية للغاية. لا أعرف كيف أفسّره. لكنها المرّة الأولى في حياتي التي يُملي فيلمٌ وتيرتَه عليّ. أيّ شيء يُزال أو يُضاف، يحوّله كلّيًا. في الاختيار، أُزيلت الأشياء التوضيحية كلّها. مثلاً: هناك تفاصيل صغيرة لا يلتقطها الجميع. عندما يصل الأب إلى تونس، يقف أمام السيارة، وينظر إلى المنزل، بينما يفتح أخوه صندوق السيارة لإخراج التلفزيون. يُزيل القرط من أذنه. بالنسبة إليّ، هذا تفصيل مهم جدًا. إنه ينظر إلى المنزل، ويُفكّر بوالدته، ويقول لنفسه: "عدتُ إلى مجتمعي، وعليّ الخضوع له. القرط لا يمرّ في عينيّ والدتي، وعليّ خلعه". يعود القرط لاحقًا، عند ذهابه إلى المطار للقاء صديقته.
(*) صراحة، لم ألاحظ هذا التفصيل. لكنّ صديقة لي كانت جالسة إلى جانبي همست لي به.
- جيّد. يعود القرط في اليوم الذي يتحمّل فيه الأب، أخيرًا، مسؤولية أبوّة الطفل. بالنسبة إليّ، أكثر اللحظات الحاسمة بهذا الشّأن كامنةٌ في حضور صديقته صوفي من فرنسا، وإخباره إياها كلّ شيء . نحن لا نرى ذلك، لكننا نفهمه لأننا نرى ردّة فعلها. هي لا تقبل، وربما هي على حقّ. تعتقد أنه إذا فعل ذلك قبلاً، يمكنه فعله معها أيضًا، بينما تنتظر طفلاً منه. هناك مشهد مُصوّر، يذهب فيه إلى منزل والدته، التي تفتح الباب له، وتقول: "ما هذا؟ هل هو قرط؟". يصدر ردّ فعل سلبي. المشهد لم يشتغل، لأنه يُسطّر على شيء أردتُ الإيحاء به فقط.
(*) أحد المشاهد التي تُثبت هذا الاهتمام بالإيحاء، هو عندما يجلس الأب على الدّرج مع شقيقه، ويسأل عمّا إذا كان الطفل "طبيعيًا"، قبل معرفة إصابته بالتوحّد.
- نعم، بالتأكيد. كلمة "التوحّد" لم يُنطق بها مرّة واحدة في الفيلم. باستثناء بحث الأب عن مركز للتوحّد في تونس، على شاشة الكمبيوتر. هذا خيار من البداية. أعتقد أن علينا الوثوق بالجمهور. هذا يعني أن للجمهور ذكاءه، وأنه قادرٌ على التقاط نيّة المخرج ودوافع الشخصيات. لذا، رغبت في إنجاز فيلم ذي خلفية دالّة، ولديه نصّ فرعي قوي للغاية، بينما نروي قصّة بسيطة يمكن أن يعيشها أي شخص، لكن عن طريق بثّ شاعرية كثيرة فيها. شاعرية الإنارة وعلاقة الأبوة.
بالنسبة إليّ، بالإضافة إلى مرض التوحّد، يتناول "في عينيا" الحقّ في الاختلاف: حقّ يوسف في الوجود كصبيٍّ عادي وطبيعي، وإنْ يكن مُصابًا بالتوحّد؛ حقّ الزوجة في وجود شخص في حياتها بعد تخلّي زوجها عنها. عبّرت عن هذا بنظرات الآخرين إلى يوسف: الأطفال الذين يلعبون في أرض قاحلة؛ جدّته التي تحسبه مجنونًا؛ الخادمة التي تعتبره شخصًا متلبّسًا بالجنّ. هذه النظرات موجودة في المجتمع، وعلينا محوها لبثّ ثقافة تقبّل الاختلاف.