كان وسط (البلد) عمّان يحافظ على إيقاعه المعهود عندما قصده كمال يونس، مساء أمس السبت، رفقة أسرته للتسوق. الضجيج يطْبق على المكان، أبواق السيارات تواصل فرض هيمنتها، تخالطها على خجل أصوات الباعة، والمشاة يتحركون بعصبية على الأرصفة المترَعة بالمحال التجارية، لكنّ شيئاً ما حدث.
بينما كانوا يهمّون بالمغادرة عابرين شارع الملك فيصل، قهرت أصوات الموسيقى الهابطة من فوق ضجيج المكان المعهود، وبدل أن يحثّوا الخطى توقّفوا يبحثون عن مصدر الصوت الذي اكتشفوه فوق الشرفات.
انفرجت أسارير كمال، بعد أن كانت أميل للعبوس، ورفع رأسه يتابع العرض الموسيقي من دون أن يتوقف عن السؤال عن المناسبة أو السبب، فيما راح أفراد أسرته يصفّقون ويتمايلون طرباً مع الألحان التي استوقفت جمهوراً كبيراً من المشاة.
عند الساعة السادسة والنصف مساءً ومن دون أي إعلان مسبق، عزفت فرقة "الحسين" الموسيقية، المشكّلة من متقاعدي موسيقات القوات المسلحة، ولمدة نصف ساعة متواصلة، عدداً من المقطوعات، ضمن مشروع موسيقى الشرفات الذي أطلقته جمعية "تجلى للموسيقى والفنون" في نهاية العام 2015 كمشروع تفاعلي، يهدف إلى تقديم عروض غنائية من شرفات مدن وبلدات أردنية مباشرة من دون إعلان مسبق.
جذبت الموسيقى الهابطة من شرفات المباني القديمة في شارع الملك فيصل، أحد أقدم شوارع وسط البلد، كمال وأسرته والمئات غيرهم من المشاة، ليتفاعلوا معها، وسط دهشة وفضول وفرح يسهل تلمّسه.
يعتقد كمال أن الحدث "غيّر من مزاج الناس، كسر الروتين" يقول الأربعيني الذي يحرص على التسوق من وسط البلد بحثاً عن أسعار منخفضة: "الموسيقى غيّرت واقع الضوضاء (..) الناس الزهقانة الطفرانة في هالأسواق لقيت أشي يفرحها"، ويعبّر عن أمنياته أن تتكرر عروض مشابهة.
اختار القائمون على المشروع شرفات شارع الملك فيصل المزدحم دائماً، مكاناً لعرضهم، لاستهداف أعداد كبيرة من الجمهور، لكن للشارع ذاكرة قديمة مع الاحتفالات الشعبية والاستعراضات العسكرية، أعيد أحياؤها بغير قصد.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي كان الشارع المكان المخصص للاستعراضات العسكرية، كونه أوسع شوارع عمّان القديمة، وفي مطلع أربعينيات القرن الماضي كان يستضيف الاحتفالات الوطنية والشعبية، فتقام على أرصفته وشرفات وسطوح المنازل المطلة على الشارع.
وأقيم العرض فوق شرفات ثلاثة مبان متقابلة ومتجاورة، وبينها راح آدم محمود (11 عاماً) يركض متابعاً ومتفاعلاً بسعادة بادية، يقول إنه يحب الموسيقى، وإن هذه المرة الأولى التي يشاهد فيها عرضاً بهذا الشكل.
وفيما توقّف المشاة رافعي رؤوسهم إلى الأعلى، أبطأت السيارات العابرة من سرعتها ليتسنّى لركابها إلقاء نظرة على العرض، ولم يتردد بعض سائقي السيارات في التوقف على جانب الطريق، غير أبهين بالتعرض لمخالفة سير، للحصول على فرصة مشاهدة أطول.
ويرى القائمون على المشروع أنه "استطاع جذب الانتباه إلى نوع جديد غير مسبوق من العروض الموسيقية، وسلط الضوء على أهمية كسر الجمود وتقديم قيمة جمالية للمدينة". واستوحت "تجلى" مشروع عرض "موسيقى الشرفات" من مشروع "أوبرا البلكونة" في مصر، فطورت الفكرة وأطلقتها بداية في مدينة عمّان تحت عنوان "شرفات عمّان" لتنقلها لاحقاً إلى المدن الأردنية وتصبح "موسيقى الشرفات".