عرف الجمهور بو كلثوم كمغني راب، ولكن قبل أشهر أصدر 4 أغان اعتمد فيها على نوع موسيقي آخر هو الـ"آر أند بي"، آخرها أغنية "ولع" التي أبصرت النور قبل أيام. "العربي الجديد" التقت الفنان السوري للحديث عن تجربته
قمت أخيراً بإنتاج أغانٍ عدة، انتقلت فيها من نمط الراب إلى الـ"آر أند بي". فما هو السبب الذي دفعك لاختيار الراب كنمط موسيقي، وما الذي دفعك لتغييره؟
إن الحديث عن الدوافع التي جعلتني أختار الراب يعود إلى طفولتي. فمنذ أن كنت طفلاً كان لدي هوس بـ"الأوديو" و"الميكسينغ" و"الكومبوزيشن"، وكانت لديّ رغبة بفهم كيفية صناعة الموسيقى. وبعد ذلك عرفت موسيقى الهيب هوب، ووقعت في حبها. كنت طفلاً عندما كنت أستمع لموسيقى الهيب هوب، وكان ذلك غير مقبول بالنسبة لعائلتي. فأهلي دائماً كانوا ضد الموسيقى، إذ إنني نشأت في بيئة متدينة ومحافظة بشكل كبير. هكذا كنت أستمع للموسيقى بالسرّ ومن دون علم أهلي. وربما ازداد إصراري على استكمال طريقي في عالم الموسيقى بسبب معارضة أهلي لها. لكني أيضاً وبسبب انتمائي لعائلة متدينة، كنت متأثراً بالصوفية بسبب الحضرات والموالد التي كنت أحضرها، ومتأثراً بالقرآن أيضاً. فالدين له تأثير كبير على إنتاجي الموسيقي، بالإضافة لتأثير الموسيقى التي أسمعها. كما أن عملي في الدبلجة في "سبيستون" لفترة من الوقت جعلني أكوّن ثقافة موسيقية في أجواء مختلفة ومتباعدة كوّنت خليطاً غريباً، ساهم نوعاً ما بتشكيل هويتي الموسيقية.
فعلياً، كنت طيلة حياتي أحب الغناء وأغنّي لوحدي وأحب قراءة القرآن والتجويد، إلا أنني كنت أخجل من صوتي وأخجل أن أغني. وكنت أشعر بأن الغناء يحتاج لرقّة، لا تلائم شخصيتي المتشددة للهيب هوب، لذا شعرت بأن أداء الراب يلائمني أكثر. وبعدما تطور مشروعي الموسيقي لأصبح "بو كلثوم"، كنت أغني بمحاولات خجولة. فكنت في البداية أرسل لأصدقائي الأغاني، وصدمتني ردود فعلهم؛ فالغالبية استغربوا أنني أنا المغني.
فعلياً كانت أول تجربة حقيقية لي بالغناء يوم طرحت أغنية "ولدي" بنسخة "فيغن"، وهي تجربة خجولة للغناء، لم أسعَ لنشرها على نطاق واسع. وبعدها عملت على أغنية "ترحال"، التي أعتبرها أول خطوة احترافية لي للغناء خارج عباءة الراب. عندما قمت بإصدارها صُدم الجمهور، وخصوصاً أنها جاءت بعد ألبوم "بعبع"، الذي كان عنيفاً وغارقاً بالسوداوية. عندها بدأت أشعر بأن الهيب هوب هو لغة واحدة لا أستطيع أن أعبّر بها عن جميع مشاعري. ففي الحالة الطبيعية، مهما كان الهيب هوب يحتوي على مشاعر لا يستطيع أن يصل إلى ما يمكن تقديمه بالصوت العربي أو "السولو" العربي. ولكنني لن أتخلى عن الهيب هوب، فأنا عاشق لهذا النمط الموسيقي ومتشدد له، وما زالت لدي الرغبة بغناء الهيب هوب.
لذلك اتجهت نحو الـ"آر أند بي"؟
أجل، هو "آر أند بي" و"سول"، هذا هو الخط الذي أسير به في الوقت الحالي.
في كلامك يتبيّن أن الغناء أكثر قدرة على نقل الإحساس، فهل تعتقد بأن الهيب هوب العربي عموماً يعاني من فقدانه القدرة على التأثير لكونه طريقة أدائية غربية بعيدة عن ثقافتنا؟
أعتقد بأن جيلنا هو من عمل على إدخال ثقافة الهيب هوب إلى الوطن العربي. أذكر أننا كنا متحمسين للهيب هوب هيتس في البداية، ولكن المجتمع لم يكن يتقبل الأمر، لأن شكلنا كان يبدو غريباً، وكان البعض يقول إننا عبدة شيطان. الأمر استغرق وقتاً طويلاً حتى بدأ الناس يتعرفون إلى ثقافة الهيب هوب، وأعتقد أننا بحاجة إلى عشر أو عشرين سنة أخرى ليصبح هذا النمط الموسيقي جزءاً من ثقافتنا، أي إلى أن يقوم الجيل الجديد الذي يسمع الهيب هوب بتوريث هذه الثقافة ونقلها للجيل اللاحق، حينها سيصبح الهيب هوب جزءاً من ثقافتنا فعلاً.
لكنني أعتقد أن هناك انعكاساً للهيب هوب على الشارع العربي، فهو أثّر على حياتي أنا شخصياً، وأنا مؤدي هيب هوب عربي ولست فقط مستمعاً. لكن الغناء الذي بدأته أخيراً، مهما كانت تسميته، "سولو" أو "آر أند بي"، له تاثير أكبر، على الأقل في الوقت الحالي، على شعبنا ومنطقتنا.
ما دام هدفك من تغيير النمط الموسيقي هو التأثير على شريحة أكبر والاقتراب من الجمهور الشرقي أكثر، فلماذا بدلت نمطك الموسيقي الغربي (راب - هيب هوب) بنمط موسيق غربي آخر (آر أند بي)؟
طيلة حياتي لم أسعَ لصناعة الموسيقى بهدف التغيير، أنا أصنع الموسيقى للتعبير عن نفسي. فمنذ اليوم الأول قمت بصناعة الموسيقى كان الهدف الأول هو التفريغ؛ فجميع الأشياء التي أكتبها تمسّ حياتي بشكل شخصي كمنير، وليس كـ"بو كلثوم". فبالنسبة لي "بو كلثوم" هو منصّة تعبير وتفريغ، ومع مرور الوقت أصبح الجمهور يضيف إسقاطات ويحمّل الأغاني معاني ليست موجودة فيها.
من ناحية أخرى، أنا لا أشعر بأن النمط الموسيقي الجديد الذي أؤديه هو غربي مئة بالمئة؛ فالأسلوب الذي أؤديه فيه الكثير من الملامح العربية، وأستخدم بالأداء العديد من المقامات العربية، لكن الموسيقى تبقى غربية، ذلك أن مرجعيتي الخاصة عن الموسيقى غربية بغالبيتها، فأغلب الألحان التي استمعت لها في حياتي هي غربية لا شرقية. وفي المقابل، أغلب مرجعياتي الشرقية هو مرجعيات دينية، وهي بطبيعة الحال مرجعية خالية من الآلات الموسيقية، وتتبدى بالأداء والمقامات؛ وذلك ما يجعل طريقتي بالغناء شرقية وترافقها ألحان غربية. فعلياً أنا أحاول أن أدمج بين هذه المرجعيات، وأعمل على الصوت الشرقي بأداء غربي، وأعمل على إيجاد نقطة الوسط بين جميع المرجعيات، الغربية والشرقية، التي أثّرت بحياتي موسيقياً.
إذاً فالموسيقى التي تقدمها في الوقت الحالي هي تجربة ذاتية في رحلة بحثك عن هويتك السمعية أو هويتك الغنائية، في التقاطع بين الثقافات المختلفة التي تأثرت بها. ألا تبدو هذه التجربة مختلفة عن تجربتك الماضية، وأخصّ بالذكر ألبوم "بعبع"، الذي لعبت به شخصية غنائية بعيدة عنك، وأدّيت من خلالها أغاني الألبوم؟ فما السبب الذي دفعك لهذا التغيير بالتوجه؟ وكيف انعكس هذا الاختلاف على صعيد العمل؟
"بعبع" ليس بعيداً عني، وإنما هو جزء من شخصيتي، ولكن أنا قمت باستخدام "بعبع" لإخراج هذا الجزء بأكثر طريقة صحية ممكنة. أنا أشعر بأنه أثناء تطورنا بالحياة، فإن أكثر الأمور التي نتعلم عنها هي أنفسنا. لذلك أعتقد أن كل هذه التجارب هي جزء من الرحلة الموسيقية الخاصة بي، وأشعر بأنني مع كل تجربة أكتشف نفسي بشكل أكبر وقدرتي على ما أستطيع أن أفعله، وأكتشف ذاتي على الصعيد الشخصي، لأنه يوجد الكثير من الأشياء الشخصية في حياتي لا يعرفها الناس عني، وهناك تغيرات كبيرة تحصل معي والناس لا يدركونها. وهذا التغيير الذاتي الذي يحدث لي، هو بأحد جوانبه موسيقي بالطبع، فالتغييرات الموسيقية مرافقة للتغيرات الذاتية، وهي إعادة اكتشاف للأنا. ربما الناس يرون بأنني قمت بتغيير نمطي الموسيقي فقط، إلا أن التغيير هو أكبر من هذا، هو متعلق بكل ما يحيط بحياتي الشخصية الذاتية؛ فتطور الموسيقى هو جزء من تطوري الذاتي.
دعنا نتحدث عن التجربة الموسيقية الجديدة، ولنخصّ بحديثنا أغانيك الثلاث: "زمّلوا"، و"ليل"، و"ولع". لقد ذكرت عدة عوامل أدّت لتكوين شغفك بالغناء، ولكن ذلك حدث فعلياً بعد انتقالك إلى أوروبا؟ فهل لتغيير المكان أيّ أثر على هذا التحوّل؟ وهل لاحتكاكك بشريحة جديدة من الجمهور أيّ أثر؟
أشعر بأنّ ذلك ليس له علاقة بأوروبا أو الثقافة والجمهور هنا، ولكن ربما له علاقة بالسفر ووضعي الخاص هنا، حيث أصبح لديّ المساحة الكافية من الراحة والوقت لأفكر وأكتشف نفسي. للأسف، لم يحصل ذلك معي إلا في أوروبا، فنحن للأسف منذ ولادتنا نركض من دون توقف بسبب مشاغل الحياة وتحصيل أولويات العيش، وعندما أخذت استراحة للتفكير تحطمت جبال الثقل التي تكوّمت على كتفي طوال عمري السابق، وهو الأمر الذي أتاح لي الفرصة لأرى نفسي بشكل أدقّ وأوضح.
كانت أول أغنية هنا هي "ترحال"، وفكرة الأغنية بدأت عندما كنت لا أزال في مخيمات اللجوء في أوروبا، قبل أن أنتقل للعيش في منزل، حينها صنعت تلك الأغنية. كنت أعاني من عدم الاستقرار في المكان وكنت في حالة نفسية سيئة، وقدمتها كصيغة تحرر جديدة جاءت بعد ألبوم "بعبع"، كانت مزيجاً من الرضى والتقبل والاستسلام للشيء الموجود والانعتاق، حينها كنت قد وصلت إلى مرحلة متقدمة من الضغط النفسي، فوجدت الحل الوحيد هو بأن أتقبل كل ما يحدث معي، وتقبل الواقع كما هو. "ترحال" كانت من أصدق الأشياء التي كتبتها في حياتي، حتى إنني قمت بتصوير الفيديو كليب الخاص بها من خلال هاتفي المحمول، ولم يكن فيديو كليب تقليدياً، وإنما هو فيديو لتفاصيل حياتي الحقيقية، صوّرته بالشارع أمام حقيبة سفر، وكانت طريقة تعبير عفوية عن اكتشاف الذات. عملت على الأغنية بفترة قصيرة، ونشرتها على المنصات الرقمية، وكان رد فعل الجمهور حولها هو ما أعطاني الطاقة والدافع للاستمرار في هذا الاتجاه. وبعدها جاءت أغنية "زملوا".
يبدو في أغنية " زمّلوا" التأثير الديني واضحاً، وشكل الأداء مختلفاً عن كل أغانيك الأخرى، فأداؤك مفعم بالطاقة والحرية، فكيف عملت على صناعة الأغنية؟
يمكنك أن تصف الأغنية بأنها أغنية حب، فأنا بالنسبة لي شاكر للكثير من النساء في حياتي، النساء اللواتي منعوني من أن أكون وحشاً. هناك سيدة في حياتي أثّرت عليّ بشكل كبير، ونصّ الأغنية كتبته لها. النصّ والموسيقى باختصار عن تأثيرها فيّ مع غيرها من الإناث اللواتي مررن في حياتي. إنني ممتن لهن، وهذه المحبة كان لها أثر إيجابي فنياً، والدليل أنّ "زمّلوا" هو أكثر "تراك" حقق الشهرة من بين التراكات التي قمت بصناعتها حتى الآن.
عادة في أغانيك تتطرق للقضايا بشكل مباشر، وإنما في "زملوا" فالمعنى غير واضح وغير مباشر. فهل نزعتك للابتعاد عن المباشرة لها دور بخروجك عن الراب؟
صراحة، أنا أرى أن الراب الذي كنت أقدمه هو راب غير مباشر، فهناك عدد كبير من الأشخاص لا يفهمون الكلمات التي أغنيها، ولكن طريقة كتابتي بالتأكيد اختلفت، فعندما تقوم بكتابة مقطع راب يكون الهدف أن تتكلم عن حالة معينة، لكن عندما تغني يجب عليك مراعاة مساحتك الصوتية ومراعاة اللحن. ففي الراب لن يقيّدك سوى الإيقاع، بينما بالغناء سيضاف إليه اللحن والمساحة الصوتية، فكلها عوامل تؤثر بطريقة الكتابة. وأنا أفضّل، بما أنني جديد في هذا النمط، ألا أكون مباشراً، وأن أخاطب نفسي قبل أن أخاطب المستمع عندما أكتب، ولا يختلف ذلك كثيراً، سواءٌ كنت أكتب أغنية هيب هوب أو سول. ففي ألبوم "بعبع" تحدثت عن حوادث شخصية لأشخاص هم فقط يعلمون أنني أخاطبهم فيها، ويعلمون أنني أتحدث عنهم، فأنا كتبت لهدف معين، هدف شخصي في حياتي، فأنا أحاكي نفسي وعدة أشخاص معينين، لذلك ليس هناك أشخاص كثر قادرين على فهم المرجعيات.
عادةً في وسائل الاتصال التقليدية تعرض منتجات فنية ترمّز للأفكار السياسية بشكل غير مباشر، وتعرض العلاقات العاطفية دون مواربة، هل تقصد أن تقلب هذه المعادلة من خلال الترميز لما هو عاطفي والمجاهرة بالسياسي؟
البيئة التي ترعرعت فيها هي بيئة شرقية، وطيلة حياتي كان موضوع التعبير عن مشاعري أمراً غريباً عني وخاصةً في العلن؛ فعندما أكتب أفضّل أن أعطي الإحساس العام للآخرين وأحتفظ بالتفاصيل الخاصة لنفسي، لأنني أشعر بأن ما أكتب عنه حسّاس للغاية، لذلك أضع بعض النقاط الواضحة لي ولبعض الأشخاص. فالتعبير عن مشاعري بهذه الطريقة هو طريقة جديدة بالنسبة لي.
تركز دائماً على الجانب الذاتي في العمل الفني، برأيك هل الفن يجب أن يكون شخصياً؟
أبداً، هذا اختياري وحسب. فمنذ أن بدأت عملي الفني اخترت أن أكتب عن أشياء شخصية تخصّني، ولم أغنّ وأكتب أغنية بحسب المواضيع الدارجة أو ما يرغب الناس بالاستماع إليه. فأنا لم أقم بذلك مطلقاً ولن أقوم به أبداً. ولو كنت أريد أن أسلك هذا الطريق التجاري فهو سهل للغاية، وربما كنت سأصل من خلاله بسهولة وسرعة. وبرأيي أن ما أعمل عليه حالياً هو أصعب، فمن السهل أن أكتب أغنية لكي يعجب بها الناس، أما بالنسبة لي أختار أن أشخصن العمل الفني، لأنني إن لم أفعل ذلك فلن أصرف طاقتي عليه ولن يكون جزءاً أصيلاً من حياتي.
وبالنسبة لأغنيتك الأخيرة "ولع"، تبدو وكأنها دمج بين النمطين المختلفين اللذين قمت بإنتاجهما. فهل وجدت ما تريده فيها؟ وهل من الممكن أن تتكلم لنا عن الشكل الجديد للأغنية؟
عملت على أغنية "ولع" منذ فترة زمنية طويلة، وهي مثلها كمثل باقي أغانيّ، جميعها لها علاقة بأحداث شخصية مرت بحياتي. و"ولع" كانت نوعاً من الثورة الشخصية على مجتمعنا بشكل عام، وعلى العالم والطريق الذي يمشي به، وموسيقياً هي بالوسط بالفعل ما بين النمطين الموسيقيين اللذين اختبرتهما، فأنا لدي الرغبة بالتجديد، وقد أدخل بالأغاني القادمة غيتارات كهربائية، وقد أنتجت تراكات رومبا وهيب هوب؛ لن أقيّد نفسي وأضع نفسي ضمن إطار لست مرتاحاً له ولا يمثلني مئة بالمئة، ولا أزال حتى اليوم بمرحلة البحث عن نفسي موسيقاً ولا أعلم إلى أين أصل.
عندما كتبت "ولع" كنت أتحدث عن ثقافة الضحية، وكيف نحن كجمهور تحولنا بعد برامج تلفزيون الواقع مثل "آرابز غوت تالنت" إلى جمهور يفترض به أن يكون له الانطباع نفسه من الأمور. فعلينا جميعاً أن نضحك على شخص ما وقف على الخشبة لنكون طبيعيين، أو ننظر للشخص على أنه ملاك معاً، أو كمجرم، ونتشارك بمدحه أو ذمه لنكون جزءاً من المجتمع. نحن إما نؤلّه الأشخاص وإما نعاملهم كشياطين. وهذا جعل الأشخاص يتبرمجون ويخشون طيلة الوقت ارتكاب الأخطاء، ولذلك يسارعون للعب دور الضحية لأنه الأكثر أماناً اجتماعياً.
إن الحديث عن الدوافع التي جعلتني أختار الراب يعود إلى طفولتي. فمنذ أن كنت طفلاً كان لدي هوس بـ"الأوديو" و"الميكسينغ" و"الكومبوزيشن"، وكانت لديّ رغبة بفهم كيفية صناعة الموسيقى. وبعد ذلك عرفت موسيقى الهيب هوب، ووقعت في حبها. كنت طفلاً عندما كنت أستمع لموسيقى الهيب هوب، وكان ذلك غير مقبول بالنسبة لعائلتي. فأهلي دائماً كانوا ضد الموسيقى، إذ إنني نشأت في بيئة متدينة ومحافظة بشكل كبير. هكذا كنت أستمع للموسيقى بالسرّ ومن دون علم أهلي. وربما ازداد إصراري على استكمال طريقي في عالم الموسيقى بسبب معارضة أهلي لها. لكني أيضاً وبسبب انتمائي لعائلة متدينة، كنت متأثراً بالصوفية بسبب الحضرات والموالد التي كنت أحضرها، ومتأثراً بالقرآن أيضاً. فالدين له تأثير كبير على إنتاجي الموسيقي، بالإضافة لتأثير الموسيقى التي أسمعها. كما أن عملي في الدبلجة في "سبيستون" لفترة من الوقت جعلني أكوّن ثقافة موسيقية في أجواء مختلفة ومتباعدة كوّنت خليطاً غريباً، ساهم نوعاً ما بتشكيل هويتي الموسيقية.
فعلياً، كنت طيلة حياتي أحب الغناء وأغنّي لوحدي وأحب قراءة القرآن والتجويد، إلا أنني كنت أخجل من صوتي وأخجل أن أغني. وكنت أشعر بأن الغناء يحتاج لرقّة، لا تلائم شخصيتي المتشددة للهيب هوب، لذا شعرت بأن أداء الراب يلائمني أكثر. وبعدما تطور مشروعي الموسيقي لأصبح "بو كلثوم"، كنت أغني بمحاولات خجولة. فكنت في البداية أرسل لأصدقائي الأغاني، وصدمتني ردود فعلهم؛ فالغالبية استغربوا أنني أنا المغني.
فعلياً كانت أول تجربة حقيقية لي بالغناء يوم طرحت أغنية "ولدي" بنسخة "فيغن"، وهي تجربة خجولة للغناء، لم أسعَ لنشرها على نطاق واسع. وبعدها عملت على أغنية "ترحال"، التي أعتبرها أول خطوة احترافية لي للغناء خارج عباءة الراب. عندما قمت بإصدارها صُدم الجمهور، وخصوصاً أنها جاءت بعد ألبوم "بعبع"، الذي كان عنيفاً وغارقاً بالسوداوية. عندها بدأت أشعر بأن الهيب هوب هو لغة واحدة لا أستطيع أن أعبّر بها عن جميع مشاعري. ففي الحالة الطبيعية، مهما كان الهيب هوب يحتوي على مشاعر لا يستطيع أن يصل إلى ما يمكن تقديمه بالصوت العربي أو "السولو" العربي. ولكنني لن أتخلى عن الهيب هوب، فأنا عاشق لهذا النمط الموسيقي ومتشدد له، وما زالت لدي الرغبة بغناء الهيب هوب.
لذلك اتجهت نحو الـ"آر أند بي"؟
أجل، هو "آر أند بي" و"سول"، هذا هو الخط الذي أسير به في الوقت الحالي.
في كلامك يتبيّن أن الغناء أكثر قدرة على نقل الإحساس، فهل تعتقد بأن الهيب هوب العربي عموماً يعاني من فقدانه القدرة على التأثير لكونه طريقة أدائية غربية بعيدة عن ثقافتنا؟
أعتقد بأن جيلنا هو من عمل على إدخال ثقافة الهيب هوب إلى الوطن العربي. أذكر أننا كنا متحمسين للهيب هوب هيتس في البداية، ولكن المجتمع لم يكن يتقبل الأمر، لأن شكلنا كان يبدو غريباً، وكان البعض يقول إننا عبدة شيطان. الأمر استغرق وقتاً طويلاً حتى بدأ الناس يتعرفون إلى ثقافة الهيب هوب، وأعتقد أننا بحاجة إلى عشر أو عشرين سنة أخرى ليصبح هذا النمط الموسيقي جزءاً من ثقافتنا، أي إلى أن يقوم الجيل الجديد الذي يسمع الهيب هوب بتوريث هذه الثقافة ونقلها للجيل اللاحق، حينها سيصبح الهيب هوب جزءاً من ثقافتنا فعلاً.
لكنني أعتقد أن هناك انعكاساً للهيب هوب على الشارع العربي، فهو أثّر على حياتي أنا شخصياً، وأنا مؤدي هيب هوب عربي ولست فقط مستمعاً. لكن الغناء الذي بدأته أخيراً، مهما كانت تسميته، "سولو" أو "آر أند بي"، له تاثير أكبر، على الأقل في الوقت الحالي، على شعبنا ومنطقتنا.
ما دام هدفك من تغيير النمط الموسيقي هو التأثير على شريحة أكبر والاقتراب من الجمهور الشرقي أكثر، فلماذا بدلت نمطك الموسيقي الغربي (راب - هيب هوب) بنمط موسيق غربي آخر (آر أند بي)؟
طيلة حياتي لم أسعَ لصناعة الموسيقى بهدف التغيير، أنا أصنع الموسيقى للتعبير عن نفسي. فمنذ اليوم الأول قمت بصناعة الموسيقى كان الهدف الأول هو التفريغ؛ فجميع الأشياء التي أكتبها تمسّ حياتي بشكل شخصي كمنير، وليس كـ"بو كلثوم". فبالنسبة لي "بو كلثوم" هو منصّة تعبير وتفريغ، ومع مرور الوقت أصبح الجمهور يضيف إسقاطات ويحمّل الأغاني معاني ليست موجودة فيها.
من ناحية أخرى، أنا لا أشعر بأن النمط الموسيقي الجديد الذي أؤديه هو غربي مئة بالمئة؛ فالأسلوب الذي أؤديه فيه الكثير من الملامح العربية، وأستخدم بالأداء العديد من المقامات العربية، لكن الموسيقى تبقى غربية، ذلك أن مرجعيتي الخاصة عن الموسيقى غربية بغالبيتها، فأغلب الألحان التي استمعت لها في حياتي هي غربية لا شرقية. وفي المقابل، أغلب مرجعياتي الشرقية هو مرجعيات دينية، وهي بطبيعة الحال مرجعية خالية من الآلات الموسيقية، وتتبدى بالأداء والمقامات؛ وذلك ما يجعل طريقتي بالغناء شرقية وترافقها ألحان غربية. فعلياً أنا أحاول أن أدمج بين هذه المرجعيات، وأعمل على الصوت الشرقي بأداء غربي، وأعمل على إيجاد نقطة الوسط بين جميع المرجعيات، الغربية والشرقية، التي أثّرت بحياتي موسيقياً.
إذاً فالموسيقى التي تقدمها في الوقت الحالي هي تجربة ذاتية في رحلة بحثك عن هويتك السمعية أو هويتك الغنائية، في التقاطع بين الثقافات المختلفة التي تأثرت بها. ألا تبدو هذه التجربة مختلفة عن تجربتك الماضية، وأخصّ بالذكر ألبوم "بعبع"، الذي لعبت به شخصية غنائية بعيدة عنك، وأدّيت من خلالها أغاني الألبوم؟ فما السبب الذي دفعك لهذا التغيير بالتوجه؟ وكيف انعكس هذا الاختلاف على صعيد العمل؟
"بعبع" ليس بعيداً عني، وإنما هو جزء من شخصيتي، ولكن أنا قمت باستخدام "بعبع" لإخراج هذا الجزء بأكثر طريقة صحية ممكنة. أنا أشعر بأنه أثناء تطورنا بالحياة، فإن أكثر الأمور التي نتعلم عنها هي أنفسنا. لذلك أعتقد أن كل هذه التجارب هي جزء من الرحلة الموسيقية الخاصة بي، وأشعر بأنني مع كل تجربة أكتشف نفسي بشكل أكبر وقدرتي على ما أستطيع أن أفعله، وأكتشف ذاتي على الصعيد الشخصي، لأنه يوجد الكثير من الأشياء الشخصية في حياتي لا يعرفها الناس عني، وهناك تغيرات كبيرة تحصل معي والناس لا يدركونها. وهذا التغيير الذاتي الذي يحدث لي، هو بأحد جوانبه موسيقي بالطبع، فالتغييرات الموسيقية مرافقة للتغيرات الذاتية، وهي إعادة اكتشاف للأنا. ربما الناس يرون بأنني قمت بتغيير نمطي الموسيقي فقط، إلا أن التغيير هو أكبر من هذا، هو متعلق بكل ما يحيط بحياتي الشخصية الذاتية؛ فتطور الموسيقى هو جزء من تطوري الذاتي.
دعنا نتحدث عن التجربة الموسيقية الجديدة، ولنخصّ بحديثنا أغانيك الثلاث: "زمّلوا"، و"ليل"، و"ولع". لقد ذكرت عدة عوامل أدّت لتكوين شغفك بالغناء، ولكن ذلك حدث فعلياً بعد انتقالك إلى أوروبا؟ فهل لتغيير المكان أيّ أثر على هذا التحوّل؟ وهل لاحتكاكك بشريحة جديدة من الجمهور أيّ أثر؟
أشعر بأنّ ذلك ليس له علاقة بأوروبا أو الثقافة والجمهور هنا، ولكن ربما له علاقة بالسفر ووضعي الخاص هنا، حيث أصبح لديّ المساحة الكافية من الراحة والوقت لأفكر وأكتشف نفسي. للأسف، لم يحصل ذلك معي إلا في أوروبا، فنحن للأسف منذ ولادتنا نركض من دون توقف بسبب مشاغل الحياة وتحصيل أولويات العيش، وعندما أخذت استراحة للتفكير تحطمت جبال الثقل التي تكوّمت على كتفي طوال عمري السابق، وهو الأمر الذي أتاح لي الفرصة لأرى نفسي بشكل أدقّ وأوضح.
كانت أول أغنية هنا هي "ترحال"، وفكرة الأغنية بدأت عندما كنت لا أزال في مخيمات اللجوء في أوروبا، قبل أن أنتقل للعيش في منزل، حينها صنعت تلك الأغنية. كنت أعاني من عدم الاستقرار في المكان وكنت في حالة نفسية سيئة، وقدمتها كصيغة تحرر جديدة جاءت بعد ألبوم "بعبع"، كانت مزيجاً من الرضى والتقبل والاستسلام للشيء الموجود والانعتاق، حينها كنت قد وصلت إلى مرحلة متقدمة من الضغط النفسي، فوجدت الحل الوحيد هو بأن أتقبل كل ما يحدث معي، وتقبل الواقع كما هو. "ترحال" كانت من أصدق الأشياء التي كتبتها في حياتي، حتى إنني قمت بتصوير الفيديو كليب الخاص بها من خلال هاتفي المحمول، ولم يكن فيديو كليب تقليدياً، وإنما هو فيديو لتفاصيل حياتي الحقيقية، صوّرته بالشارع أمام حقيبة سفر، وكانت طريقة تعبير عفوية عن اكتشاف الذات. عملت على الأغنية بفترة قصيرة، ونشرتها على المنصات الرقمية، وكان رد فعل الجمهور حولها هو ما أعطاني الطاقة والدافع للاستمرار في هذا الاتجاه. وبعدها جاءت أغنية "زملوا".
يبدو في أغنية " زمّلوا" التأثير الديني واضحاً، وشكل الأداء مختلفاً عن كل أغانيك الأخرى، فأداؤك مفعم بالطاقة والحرية، فكيف عملت على صناعة الأغنية؟
يمكنك أن تصف الأغنية بأنها أغنية حب، فأنا بالنسبة لي شاكر للكثير من النساء في حياتي، النساء اللواتي منعوني من أن أكون وحشاً. هناك سيدة في حياتي أثّرت عليّ بشكل كبير، ونصّ الأغنية كتبته لها. النصّ والموسيقى باختصار عن تأثيرها فيّ مع غيرها من الإناث اللواتي مررن في حياتي. إنني ممتن لهن، وهذه المحبة كان لها أثر إيجابي فنياً، والدليل أنّ "زمّلوا" هو أكثر "تراك" حقق الشهرة من بين التراكات التي قمت بصناعتها حتى الآن.
عادة في أغانيك تتطرق للقضايا بشكل مباشر، وإنما في "زملوا" فالمعنى غير واضح وغير مباشر. فهل نزعتك للابتعاد عن المباشرة لها دور بخروجك عن الراب؟
صراحة، أنا أرى أن الراب الذي كنت أقدمه هو راب غير مباشر، فهناك عدد كبير من الأشخاص لا يفهمون الكلمات التي أغنيها، ولكن طريقة كتابتي بالتأكيد اختلفت، فعندما تقوم بكتابة مقطع راب يكون الهدف أن تتكلم عن حالة معينة، لكن عندما تغني يجب عليك مراعاة مساحتك الصوتية ومراعاة اللحن. ففي الراب لن يقيّدك سوى الإيقاع، بينما بالغناء سيضاف إليه اللحن والمساحة الصوتية، فكلها عوامل تؤثر بطريقة الكتابة. وأنا أفضّل، بما أنني جديد في هذا النمط، ألا أكون مباشراً، وأن أخاطب نفسي قبل أن أخاطب المستمع عندما أكتب، ولا يختلف ذلك كثيراً، سواءٌ كنت أكتب أغنية هيب هوب أو سول. ففي ألبوم "بعبع" تحدثت عن حوادث شخصية لأشخاص هم فقط يعلمون أنني أخاطبهم فيها، ويعلمون أنني أتحدث عنهم، فأنا كتبت لهدف معين، هدف شخصي في حياتي، فأنا أحاكي نفسي وعدة أشخاص معينين، لذلك ليس هناك أشخاص كثر قادرين على فهم المرجعيات.
عادةً في وسائل الاتصال التقليدية تعرض منتجات فنية ترمّز للأفكار السياسية بشكل غير مباشر، وتعرض العلاقات العاطفية دون مواربة، هل تقصد أن تقلب هذه المعادلة من خلال الترميز لما هو عاطفي والمجاهرة بالسياسي؟
البيئة التي ترعرعت فيها هي بيئة شرقية، وطيلة حياتي كان موضوع التعبير عن مشاعري أمراً غريباً عني وخاصةً في العلن؛ فعندما أكتب أفضّل أن أعطي الإحساس العام للآخرين وأحتفظ بالتفاصيل الخاصة لنفسي، لأنني أشعر بأن ما أكتب عنه حسّاس للغاية، لذلك أضع بعض النقاط الواضحة لي ولبعض الأشخاص. فالتعبير عن مشاعري بهذه الطريقة هو طريقة جديدة بالنسبة لي.
تركز دائماً على الجانب الذاتي في العمل الفني، برأيك هل الفن يجب أن يكون شخصياً؟
أبداً، هذا اختياري وحسب. فمنذ أن بدأت عملي الفني اخترت أن أكتب عن أشياء شخصية تخصّني، ولم أغنّ وأكتب أغنية بحسب المواضيع الدارجة أو ما يرغب الناس بالاستماع إليه. فأنا لم أقم بذلك مطلقاً ولن أقوم به أبداً. ولو كنت أريد أن أسلك هذا الطريق التجاري فهو سهل للغاية، وربما كنت سأصل من خلاله بسهولة وسرعة. وبرأيي أن ما أعمل عليه حالياً هو أصعب، فمن السهل أن أكتب أغنية لكي يعجب بها الناس، أما بالنسبة لي أختار أن أشخصن العمل الفني، لأنني إن لم أفعل ذلك فلن أصرف طاقتي عليه ولن يكون جزءاً أصيلاً من حياتي.
وبالنسبة لأغنيتك الأخيرة "ولع"، تبدو وكأنها دمج بين النمطين المختلفين اللذين قمت بإنتاجهما. فهل وجدت ما تريده فيها؟ وهل من الممكن أن تتكلم لنا عن الشكل الجديد للأغنية؟
عملت على أغنية "ولع" منذ فترة زمنية طويلة، وهي مثلها كمثل باقي أغانيّ، جميعها لها علاقة بأحداث شخصية مرت بحياتي. و"ولع" كانت نوعاً من الثورة الشخصية على مجتمعنا بشكل عام، وعلى العالم والطريق الذي يمشي به، وموسيقياً هي بالوسط بالفعل ما بين النمطين الموسيقيين اللذين اختبرتهما، فأنا لدي الرغبة بالتجديد، وقد أدخل بالأغاني القادمة غيتارات كهربائية، وقد أنتجت تراكات رومبا وهيب هوب؛ لن أقيّد نفسي وأضع نفسي ضمن إطار لست مرتاحاً له ولا يمثلني مئة بالمئة، ولا أزال حتى اليوم بمرحلة البحث عن نفسي موسيقاً ولا أعلم إلى أين أصل.
عندما كتبت "ولع" كنت أتحدث عن ثقافة الضحية، وكيف نحن كجمهور تحولنا بعد برامج تلفزيون الواقع مثل "آرابز غوت تالنت" إلى جمهور يفترض به أن يكون له الانطباع نفسه من الأمور. فعلينا جميعاً أن نضحك على شخص ما وقف على الخشبة لنكون طبيعيين، أو ننظر للشخص على أنه ملاك معاً، أو كمجرم، ونتشارك بمدحه أو ذمه لنكون جزءاً من المجتمع. نحن إما نؤلّه الأشخاص وإما نعاملهم كشياطين. وهذا جعل الأشخاص يتبرمجون ويخشون طيلة الوقت ارتكاب الأخطاء، ولذلك يسارعون للعب دور الضحية لأنه الأكثر أماناً اجتماعياً.