Uneven Sky (سماء وعرة)، بقرصيه المُدمجين، تجميعٌ بأثر رجعي، يكاد يؤرشف إنتاج كنان، الفنان الدؤوب والموهوب، على مدار عقد ونصف من النجاح المضطرد، حيث أخذت مسيرته المهنية تتبلور مارةً بمحاور هامة، شخصية وموضوعية؛ افتتاح دار أوبرا دمشق 2004، والصداقة التي جمعته بـYoYo Ma، أسطورة التشيلّو، الذي يشارك في أداء بعض مقاطع التسجيل.
يربط العظمة فكرة البحث عن الوطن رمزياً بفعل إنتاج الألبوم. يقول: "سورية ليست على الغلاف، وإنما في كل مكان، في قلبي وفي ثنايا الألحان". فالعمل الفنّي، هنا، مُقدَّم على أنه عملُ فنٍ بقدر ما هو فن عمل. صوت فنان سوري، عازف ومؤلف ومؤدٍ، مؤيد للحريّة والديمقراطية، دونما خوضٍ سياسي مباشر في صميم المأساة السورية.
السي دي الأول خُصّص للفنان، مؤلفاً لموسيقاه وعازفاً لها. يحوي متتاليتين (والمتتالية سلسلة مقطوعات يجمع بين أجزائها طابع يُحدده الشكل أو المضمون أو كلاهما)، إضافة إلى ثنائي للكلارينيت والتشيلّو. السي دي الثاني ضمّ أعمالاً كُتبت له وأداها هو، لثلاثة مؤلفين سوريين؛ اثنين من مجايليه، هما كريم رستم وزيد جبري، إضافة إلى الرائد الراحل ضياء سكّري (1938 - 2010).
متتالية لمُرتجل وأوركسترا، تأليف كنان العظمة: عنوان إطارٍ يُحيط بثلاث مقطوعات، تجمعها مركزية العظمة عازفَاً للكلارينيت، وروحية الجاز المُنفتح على كل الموسيقات؛ كلاسيكية كانت، شرق أوسطية أو عابرة للهوية؛ أجواء البيئة السمعية الموازية التي نشأ فيها المؤلِف (المربّى على أصول العزف الكلاسيكي) لصلة القرابة بين الكلارينيت والساكسوفون، وحياته في مدينة نيويورك.
أوّل المقطوعات Love on 139th Street تلد الموسيقى من رحم الكلارينيت، وإلى الكلارينيت تعود. على نارٍ إيقاعية تبُثها طبول هندية وأفرو لاتينية، تُسخّن الألحان، ينفُثها كنان كالدخان، حتى يتبادر للآذان كما لو أن كل الأصوات تصدر عنه، من بين يديه، من حنجرته ومن رئتيه. ألوان الوتريّات مستترة، والنفخيات المختلفة متقاربة، طبقاتها اللًونية متّسقة ومتماهية.
يؤلف العظمة November 22d كي يرتجل. تتداخل المُرافقات من الأصوات على مساحات، كضربات فرشاةٍ عريضة بألوان البنّي والأحمر الخمريّ، والأصفر بدرجاته النورانية. تنتظم ضمن تشكيلات إيقاعية مركبة وطويلة، تمزج بين الجاز والقوالب الشرقية الثقيلة، كالسماعي والبشرف والموشح. تحيكُ بطانة دراميّة مخملية ترتديها الكلارينيت، وبساطٍ هارمونيّ تحلّق به.
Wedding آخِرُ المتتالية، لوحةٌ تحتل فيها الكلارينيت مجالاً ارتجالياً واسعاً. التسخين الإيقاعي صاخب ومحتدم يُؤْذن له بالارتجال، مُضطرب يمزج الفرح بالترح، العرس بالجنازة، وحلقات الدبكة برشقات الرصاص. هارمونيات نافرة وغير معهودة تُمزّق اللحن. الكلارينيت "مجيّز" (بنكهة الجاز؛ يكاد أن ينقلب ساكسوفون آلتو)، يهمس لحظات، ولحظات أخرى يهللّ أو يجلجل ويوَلول.
متتالية ابن عربي تأليف كنان العظمة؛ ثلاثة أجزاء تجمع العازف والمؤلف بمغنيّة السوبرانو السورية ديمة أورشو، حيث تربط الزميلين صداقة بطول الحياة. تُغنّي ديمة مختارات من نصوص لمحيي الدين ابن عربي. المرافقة هنا، كما في سائر قطع الألبوم، لأوركسترا Deutsches Symphonie-Orchester Berlin، بقيادة Manuel Nawri.
في Prelude، تتولّد الأصوات، كما النواظم الإيقاعية، من التعددية. تطرأ على سيرورة الجملة الموسيقية، المُنبثقة من قاع التشيلّو والباص المُتحرّك، انحرافة مقامية تُميّز شخصية اللحن، مُضيفةً عليه جمالية شرقية. بخلاف السائد للعربي، لا يحتل الصوت البشري الصدارة، وإنما يؤلتن، أي يُوظّف كآلة موسيقية تسير بموازاة الكلارينيت على مجرى الأحداث الأوركسترالية المتتابعة.
تتشكّل Ricitation من مثلث الغناء والكلارينيت مع نبض الباص الناظم والمستقر. يرتجل كنان، فيما ديمة تتلو لابن عربي. تُسمع أجسام أوركسترالية، تمدّ المشهد بتصعيد درامي لا يلبث أن يتلاشى. تُنسج الخاتمة Postlude على منوالٍ الكلارينيت ونقر الوتريات، تحاورها آلة التشيلّو في لحن مُنفرد تأخذه الأوركسترا، ليلاقي صوتَ أورشو، دقائقَ قليلة قبل أن تُسدلَ الهوائيات الستار.
السياج، سطح البيت والبحر البعيد بخمسة أجزاء لآلتي الكلارينيت والتشيلّو، تأليف وعزف كنان العظمة/ تشيلّو YoYo Mo؛ Prologue عُزلةٌ للكلارينيت المنفرد، صوت داخلي يُسمع في عماء ما حوله. استبطان يبحث عن المكان، تُبرق الذكريات بصوت التشيلّو كالإشارات، توقظ المتأمل، ليكتشف أن ذاته قد صارت في كون آخر.
Ammonite صَدفة بحرية، إن تلتصق بقعرها الأذن، تسمع ضجيج زحام في أحد ميادين الشام. يبحث التشيلّو في Monologue عن الأصوات بين الأصوات، حتى يجد ضالته؛ الكلارينيت. في Dance ترقص الكلارينيت والتشيلّو نشاوى، أما عند Epilogue فتستريح الروح من عناء البحث، بعدما وجدت في آخر المسار أن المكان ليس سوى أمكنة، والذكريات بقايا صوّر.
كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا، تأليف كريم رستم؛ ملحمة "أوديسا" تخوض غمارها كلارينيت كنان، في عوالم تترامى بين سرمد الحلم وسحيق الهول. استحواذٌ فذّ وأخّاذ، قل نظيره عربياً، على مصادر الطاقة التعبيرية الكامنة في الكتابة الأوركسترالية الحديثة. يقترب كونشرتو رستم من أن يكون عملاً أدبياً خالصاً؛ سبر أعماقٍ موسيقية، إسقاطاً شعرياً على أغوار النفس البشرية.
كونشرتو الكلارينيت والأوركسترا، تأليف زيد جبري. يقوم الأخير بتفكيك المقام الشرقي، فكرياً، في مسعىً إلى الاقتراب من جوهره؛ ما يرمي إليه ليس المقام، وإنما مقاميّة المقام، من جهة أثره الإنساني العابر للمحليّة. البنى الداكنة التي يُشيّدها والأطوار السوداوية التي يمرّ بها العمل، مسموغُ صدى كتمانِ الصوت/ الكلارينيت، تحت نير سكونية قاهرة مستبدة.
Paroles - متتالية للكلارينيت والأوركسترا، تأليف ضياء سكري؛ بـ"أحاديث" ((paroles يعنون الراحل ضياء سكري متتاليته، وبمفرد "حديث"، كلاً من أجزائها الثلاثة. الغنائية علامة سكّري الفنية، وحيث يتجلّى موروثه المشرقي. هو الذي أقام، درس ودرّس في فرنسا، هناك، جامَع الغنائية الحلبية بشاعرية الأسلوب الفرنسي لفترة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين.
حديثُ Abîmes au soleil (هاوية في الشمس): تصوير استشراقي، على إيقاعات شبيهة برقص السماح، لأجواء تذكّر بالقوافل. (شجرة في مهب الريح) L’arbre Au Vent تستهلّها الكلارينيت بلحن على مقام الحجاز، ليبدأ الحوار مع الأوركسترا، بإيماءات لحنية راقصة. (صباح وردي) Matin A La Rose: تبادل بين أشكال رقص فولكلورية وشاعريّة أوركسترالية.
حين يؤلف، يُكثر كنان العظمة من حضوره، سواء عبر الأداء منفرداً أو الارتجال مطوّلاً، وتلك حال عادية عندما يكتب العازف لكي يؤدي هو، أو أن يكون عازفه المنفرد، مما قد يجعل نتاجه متمركزاً حول ذاته، ناجزاً بحضوره، ناقصاً بغيابه. أما الآن وقد استقر الفنان وتأسست سيرته، وتألق نجمه، آن له الأوان ربما، أن يقدّم موسيقاه، لا موسيقى تقدّمه.