اشتراك الروائية الكندية (من السكان الأصليين)، نعومي فونتين، مع المخرجة الكندية (كيبك) ميريام فيرو، في كتابة سيناريو "كسيبان" (2019)، يشي باتفاق بينهما على تقاسم الحصص، حتى لا يميل النص السينمائي في النهاية إلى طرفٍ من دون آخر. اتفاقٌ منبعه الرغبة في التوازن بين الإخلاص للأصل الروائي (عنوان الفيلم هو نفسه عنوان الرواية الصادرة عام 2013)، والاشتغال السينمائي، وحاجته إلى إعادة كتابة النص بشروط السرد البصري. لعلّ هذا يحدث في أفلام عدّة، تقتبس حكاياتها من روايات أو قصص، لكنّ التفرّد هنا يكمن في تضمين البصري صوتاً شعرياً داخلياً، يُراد به التخلّص من عاديّة معالجة أحوال الأقليات العرقية، التي تؤطّر غالباً بأبعاد عنصرية وسياسية، من دون التفاتٍ كافٍ إلى جوانيّات شخصياتها، وحساسياتها الشديدة إزاء ما يجري فيها.
اشتغال ميريام فيرو مختلف، يرصد حالة الفرد في المجموعة، المتشابهة ظروف عيشها والخاضعة للضغوط الخارجية نفسها التي يُغيِّب ثقلها وقساوتها خصوصية الأفراد، فيغدو توصيفها عاماً وجمعياً. لكسر ذلك التعميم، يُقترَح النظر إلى حكاية ميكوان (شارون فونتين ـ إيشباتاو) وصديقة طفولتها شانيس (يامي غريغوار) (وكلاهما من السكان الأصليين لكندا) من زاوية خاصة، لا تُلغي المناخ العام الناشئتين فيه، لكنها تسمح بالتقرّب أكثر من ذات كلّ واحدة منهما، التي تشبه نفسها.
لم تُوحّد ظروف العيش في محمية قبيلة "إينو"، المُقيمة في مقاطعة كيبك (كندا)، طباعهما الفردية، منذ نشأتهما معاً حتى افتراقهما في سنّ الشباب. احتفظت ميكوان بطيبتها وبساطتها، ولم تفارق وجهها تلك الابتسامة الحلوة. قلما كانت تغضب، وكانت دائماً متماسكة، تساعد صديقتها التي تعاني تأثيرات تفكّكٍ وتمزّق عائليين مؤلمين.
صوتها الداخلي أغرب ما فيها. به، تُحيل الفعل، مهما كانت قسوته، إلى جُمل شعرية. تواجه صدمات الحياة، وبصوتها هذا تمتصّ الصدمات، وتبرّرها بعمق المعنى الفلسفي الكامن داخلها. تذهب إلى الإيجابي دائماً، وتتجاوز المُثير للنزاعات. هذا تكوينها النفسي. به قاومت ضغط "الاختلاف". جذورها كمواطنة من السكان الأصليين لم تجد فيها عائقاً لقبول الآخر لها. لا تتردّد في قبوله. تلك المَلَكة افتقرت إليها صديقتها شانيس، فظلّت أسيرة "غيتو" محصور بالسكان الأصليين، أضرّها كثيراً التمسّك بشرائعه.
قلّما اعتنت السينما بعالم السكان الأصليين في منطقة كيبك. الدخول إليه من بوّابة نص روائي، ينقل التجربة الشخصيّة لكاتبته إلى الشاشة، مُدهش جداً. ليس أقلّها براعة اشتغال ميريام فيرو على مفردات المكان.
عزلة هذا العالم تُسوّر دواخل سكّانه. البيض لا يدخلون إليه إلا نادراً. المدارس أمكنة وحيدة مختلطة تقريباً. اللغة الفرنسية وسيط مُتاح للتفاهم فيما بينهم. تجتاح كبار السن منهم رغبة في الفكاك من الحصار بنصب خيام، كتلك التي كانوا يعيشون داخلها في البراري خلف بيوتهم، والأجيال الجديدة منهم تستنسخ حياة من سبقهم، بالتباساتها وتعقيداتها. انفعالاتهم مكبوتة، تتحرّر بفعل عوامل خارجية (إفراط في تناول الكحول والمخدرات)، فتبدو مفتعلة، غير مسيطر عليها.
بالفطرة، تفكّ ميكوان "عقدة الأقلية"، وتحرّر نفسها من المقاييس الشائعة للجمال. لم تأبه لسمنتها ولا لملامحها الحادّة الخاصة بالسكان الأصليين. توازنها الداخلي كافٍ لإضعاف الأحكام القاطعة للخارج، وبالشِّعر تتجاهلها. في المدرسة، اكتشفوا مهارتها اللغوية، فأتاحوا لها فرصة المشاركة في جلسات أدبية. خلالها، تتعرّف إلى فرنسيس (إتين غلوا).
اقــرأ أيضاً
في مراحله كلّها، لم ينحُ "كسيبان" (تعني الكلمة، في لغة قبائل "إينو"، إليك) نحو سوداوية وتشابكات تراجيدية. يحافظ على هدوئه، ويتمسّك به في أشدّ لحظات التصادم والأحداث الشخصية المؤلمة. يستهدي طوال الوقت بسلوك بطلته وردود فعلها، المجبولة على حكمة، تُلحّ على النظر دائماً إلى نقطة الضوء غير المرئية وسط العتمة. لا يُحيل نصّه سلوكها إلى ثقافة معينة، بقدر ما يتعامل معه كحالة فردية خاصة، لا تحتمل تأويلات كثيرة، إثنولوجية ومعرفية. ما يُساعد على قبول "فردانية" الحالة، هو الشِّعر المنقول مرّة بصوتها ومرّة بصورة مُتخيّلة، يلعب التصوير (نيكولاس كانيكيوني) دوراً مهماً في إيصالها، وتُسهّل الموسيقى (لوي ـ جان كورمييه) قبولها، في سياق سردي مشحون بالأحزان وازدحام المشاعر.
لنقل التباس العلاقات وحدّة الانفعالات سينمائياً، لا بُدّ من توافر ممثلين قادرين على التعبير عنها بصدق. هذا حاضرٌ في الممثل. حضور السكان الأصليين، المشاركين فيه، لافتٌ للانتباه. اشتغال ميريام فيرو على التفاصيل المكانية، وإبراز الفرد المشرق وسط مناخ معتم، مُذهل في دقّته وشدّة حساسيته. هذا جعل من عملها الروائي الطويل الأول تحفة، تنتمي إلى سينما تعتني بالغائر في أعماق الإنسان.
لم تُوحّد ظروف العيش في محمية قبيلة "إينو"، المُقيمة في مقاطعة كيبك (كندا)، طباعهما الفردية، منذ نشأتهما معاً حتى افتراقهما في سنّ الشباب. احتفظت ميكوان بطيبتها وبساطتها، ولم تفارق وجهها تلك الابتسامة الحلوة. قلما كانت تغضب، وكانت دائماً متماسكة، تساعد صديقتها التي تعاني تأثيرات تفكّكٍ وتمزّق عائليين مؤلمين.
صوتها الداخلي أغرب ما فيها. به، تُحيل الفعل، مهما كانت قسوته، إلى جُمل شعرية. تواجه صدمات الحياة، وبصوتها هذا تمتصّ الصدمات، وتبرّرها بعمق المعنى الفلسفي الكامن داخلها. تذهب إلى الإيجابي دائماً، وتتجاوز المُثير للنزاعات. هذا تكوينها النفسي. به قاومت ضغط "الاختلاف". جذورها كمواطنة من السكان الأصليين لم تجد فيها عائقاً لقبول الآخر لها. لا تتردّد في قبوله. تلك المَلَكة افتقرت إليها صديقتها شانيس، فظلّت أسيرة "غيتو" محصور بالسكان الأصليين، أضرّها كثيراً التمسّك بشرائعه.
عزلة هذا العالم تُسوّر دواخل سكّانه. البيض لا يدخلون إليه إلا نادراً. المدارس أمكنة وحيدة مختلطة تقريباً. اللغة الفرنسية وسيط مُتاح للتفاهم فيما بينهم. تجتاح كبار السن منهم رغبة في الفكاك من الحصار بنصب خيام، كتلك التي كانوا يعيشون داخلها في البراري خلف بيوتهم، والأجيال الجديدة منهم تستنسخ حياة من سبقهم، بالتباساتها وتعقيداتها. انفعالاتهم مكبوتة، تتحرّر بفعل عوامل خارجية (إفراط في تناول الكحول والمخدرات)، فتبدو مفتعلة، غير مسيطر عليها.
بالفطرة، تفكّ ميكوان "عقدة الأقلية"، وتحرّر نفسها من المقاييس الشائعة للجمال. لم تأبه لسمنتها ولا لملامحها الحادّة الخاصة بالسكان الأصليين. توازنها الداخلي كافٍ لإضعاف الأحكام القاطعة للخارج، وبالشِّعر تتجاهلها. في المدرسة، اكتشفوا مهارتها اللغوية، فأتاحوا لها فرصة المشاركة في جلسات أدبية. خلالها، تتعرّف إلى فرنسيس (إتين غلوا).
بين ثنايا علاقتهما العاطفية، يمكن العثور على تناقضات عميقة، وخوف من اكتشاف الآخر. في مشهد يجمعهما عند أعمدة نقل الطاقة الكهربائية، تتذكّر الشابة مشاركة والدها السكان الأصليين في مظاهرات سلمية ضد فكرة إقامتها فوق أراضيهم البكر. لا يتذكّر فرنسيس إن كان لأهله موقف منها. الإحساس بالاختلاف يلازمه طوال وجوده بين أهلها. لم يتحرر منه. ظاهرياً، مبعثه اختلاف العادات واللغة. في العمق، هناك تصادم يتحيّن الفرصة للظهور. في موت أخيها في حادث سير، يجد مبرّرات كافية لفضّ علاقته بها. صلتها بـ"أبيض" تُزعزع علاقتها بالمكان، فتهرب منه إلى كيبك/ المدينة. هناك، يتحوّل ألم الفراق إلى كلمات تبدأ بالخروج من محبسها الداخلي، لتغدو صوتاً مسموعاً، ثم مكتوباً على ورق.
في مراحله كلّها، لم ينحُ "كسيبان" (تعني الكلمة، في لغة قبائل "إينو"، إليك) نحو سوداوية وتشابكات تراجيدية. يحافظ على هدوئه، ويتمسّك به في أشدّ لحظات التصادم والأحداث الشخصية المؤلمة. يستهدي طوال الوقت بسلوك بطلته وردود فعلها، المجبولة على حكمة، تُلحّ على النظر دائماً إلى نقطة الضوء غير المرئية وسط العتمة. لا يُحيل نصّه سلوكها إلى ثقافة معينة، بقدر ما يتعامل معه كحالة فردية خاصة، لا تحتمل تأويلات كثيرة، إثنولوجية ومعرفية. ما يُساعد على قبول "فردانية" الحالة، هو الشِّعر المنقول مرّة بصوتها ومرّة بصورة مُتخيّلة، يلعب التصوير (نيكولاس كانيكيوني) دوراً مهماً في إيصالها، وتُسهّل الموسيقى (لوي ـ جان كورمييه) قبولها، في سياق سردي مشحون بالأحزان وازدحام المشاعر.
لنقل التباس العلاقات وحدّة الانفعالات سينمائياً، لا بُدّ من توافر ممثلين قادرين على التعبير عنها بصدق. هذا حاضرٌ في الممثل. حضور السكان الأصليين، المشاركين فيه، لافتٌ للانتباه. اشتغال ميريام فيرو على التفاصيل المكانية، وإبراز الفرد المشرق وسط مناخ معتم، مُذهل في دقّته وشدّة حساسيته. هذا جعل من عملها الروائي الطويل الأول تحفة، تنتمي إلى سينما تعتني بالغائر في أعماق الإنسان.