يطرح "أمّي" (روائي قصير، 17 دقيقة)، للّبناني وسيم جعجع، سؤال الدين في قالب سينمائي، يقوم على تجربة شخصية: قصّة طفل يعيش في قرية لبنانية، يبلغ من العمر 9 أعوام. عند وفاة والدته، يخبره والده أنّ المسيح أخذها، فـ"يسرق" تمثال السيّدة العذراء، كي يساوم المسيح، ظنّا منه أنه بهذا الفعل يُعيد المسيحُ أمَّه إليه.
صورة سينمائية تعبّر عن حالة يعيشها الفرد، فيُسائلها سينمائيا، من دون اللجوء إلى استعارة واقع آخر.
بمناسبة فوز الفيلم بجائزة "النجمة الفضية" في الدورة الثالثة (19 – 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، حاورت "العربي الجديد" وسيم جعجع.
قبل أسابيع قليلة، فاز "أمي" (2019) بجائزة "النجمة الفضية" في "مهرجان الجونة السينمائي". ما الذي تعنيه هذه الجائزة لمخرج شاب، يفكّر في اقتحام عالم السينما العربية؟
الجوائز مهمّة دائما للمخرجين العرب والأجانب. فالجائزة مكافأة وتقدير، بعد مرحلة العمل الدؤوب، خاصة حين يكون المخرج في بداية مشواره الفني. الجائزة تساعد على المتابعة والاستمرار في صناعة الأفلام. جائزة "النجمة الفضيّة" منحها مهرجان عربي لفيلمٍ يناقش موضوعا عربيا شائكا بطريقة جريئة. الجائزة اعتراف بأنّ السينما مكان بارز لمناقشة مواضيع اجتماعية وسياسية وإنسانية جريئة وحسّاسة، تدفع المرء إلى قراءة ذاتية نقدية لأفكار ومسلمات كثيرة، تطبع حياتنا اليومية في مجتمعاتنا.
لكن الجوائز ليست دائما الأهم. هناك أفلام عظيمة كثيرة لم تنل جوائز. الجائزة الحقيقية تتمثّل في نجاح الفيلم في مَسّ عدد كبير من الأشخاص، ودفعهم إلى رؤية الحياة بطريقة أخرى.
يحكي الفيلم قصّة الياس (9 أعوام) الذي يحاول استرجاع أمه المتوفاة من المسيح. كيف تشكّلت الفكرة؟
ينطلق الفيلم من تجربة شخصية، فأنا خسرت والدتي عندما كنت في الرابعة من عمري. كبرت وأنا أحاول فهم الموت، طارحا الأسئلة التي يطرحها الياس. لكن ليس هذا فقط ما دفعني إلى كتابة الفيلم وإخراجه، فليس كلّ من يعِشْ تجربة فردية، يصنع فيلما عنها.
في الأعوام الأخيرة، شهد لبنان والعالم العربي ثورات وانتفاضات وحراكا اجتماعيا، تطالب كلّها بالتغيير. كنتُ أتساءل: كيف يمكننا المُطالبة بتغيير منظومة اجتماعية وسياسية كاملة، ونحن لم نتمكن من الثورة على ذواتنا بعد، وعلى الأفكار والمعتقدات الدينية والسياسية، التي كبرنا وتربّينا عليها. بالنسبة إليّ، الثورة تبدأ من الداخل، والانتفاضة تبدأ في المنزل، وفي كلّ فرد منا. ذاتنا المنتفضة على المنظومة التربوية التي كبرنا عليها هي الشرارة الأولى للتغيير.
هذه الشرارة للأسف لا تشتعل إلا عند اختبار الألم، فلا ننتفض إلا بعد الموت أو الجوع، ولا نثور قبل أن نتذوّق طعم الحرمان الحقيقي. عندما نحقّق التغيير الفردي، يمكننا تحقيق التغيير الحقيقي في مجتمعنا. من هذه الأسئلة والألم الفردي الذي عشته، ولدت فكرة "أمّي".
قلتَ إنّ الفيلم يتناول، في جزء منه، قصّتك، حين فقدت والدتك وأنت لا تزال طفلا. كيف يستطيع المخرج أن ينجح في تناول سيرته الذاتية، وأن يميّز بين الواقع والمتخيل من تجربته الحياتية، في فيلم؟
تصعب كتابة فيلم يحكي تجربة فردية أو ألما فرديا، إذْ يسهل في هذه الحالة الغرق في الخاص، من دون النجاح في إيصال المشاعر الحقيقية للمُشاهد. بالنسبة إليّ، المُشاهد هو العنصر الأهم، أتوجّه إليه مباشرة بفيلمي، وأريد لفيلمي أن يصل إليه أولا، ليكون مساحة نقاش بيننا، تنقلنا إلى مستوى أكبر في التفكير.
من هذا المنطلق، تشاركت كتابة الفيلم مع كاتب شاب آخر موهوب جدا، هو طوني إيلي كنعان، أمضينا ساعات طويلة من النقاشات، تولّد عنها سيناريو "أمي". تشاركنا تعليقات كثيرة مع المنتج (جورج زرازير وغبريال شمعون) ومدير التصوير (نسيم جعجع) وفريق العمل، حتى وصلنا إلى هذه النسخة النهائية، التي دمجت بين التجربة الإنسانية والموت والخسارة. الموت يطاول البشر جميعهم. التجربة السياسية الثورية تتمثّل في عدم قبول أفكار المنظومة الاجتماعية والدينية وتحليلاتها، أي برفض الياس موت أمّه، وبثورته على مجتمعه. أتمنى أنْ أكون نجحت في إخراج الفيلم من الخاص إلى العام، مع الحفاظ على بعده الفني المستقلّ والعميق.
ماذا عن شخصية الياس؟ كيف تعاملت مع طفل في عمره؟
اختيار من يؤدّي دور الياس كان التحدّي الأبرز لي، إذْ عليه تقديم مشاعر صادقة، تمزج بين حزنه على فقدان والدته، وغضبه على المنظومة الاجتماعية المنتمي إليها. من وجهة نظري، يصعب أن ينجح طفل عادي بذلك. لذا، أصررت على أن يؤدّي الدور طفلٌ عاش تجربة مشابهة لتجربة الياس. بمساعدة مديرة الإنتاج، التقيت جاك عبّود الجناح، الذي يعيش في دير في قرية لبنانية بعيدة عن بيروت. من اللقاء الأول والحديث الأول، تأكّدت، بفضل لمعة الحزن الموجودة في عينيه، بسبب التجربة الفردية التي عاشها، أنّه هو الشخص المناسب لتأدية الدور. ومع أطباء نفسيين، تمكّن جاك من تأدية دوره بأفضل ما يمكن، فبات الفيلم مساحته الفردية للتعبير.
كيف استقبل المُشاهد العربي "أمي"، خاصة أنّه يتناول موضوعا حساسا هو الدين، الذي ربما يعتبره المُشاهد العربي نفسه نقدا صريحا له، علما أنّه مُصوّر عبر شهادة طفل؟
عُرض الفيلم في مهرجانات أوروبية عديدة في فترة قصيرة، وسيعرض في غيرها العام المقبل. لكن المهرجان العربي الوحيد الذي عُرض فيه إلى الآن هو "مهرجان الجونة السينمائي".
أعتقد أن المُشاهد العربي تعب فعليا من المنظومة الدينية والسياسية التي تؤثّر في مشاعره وحياته اليومية. إنّه محتاج إلى خطاب يواكب التقدّم الفكري الذي بدأ يعيشه. كثيرون وجدوا في "أمّي"، كما قيل لي، انعكاسا لأفكار كثيرة تتردّد في الشارع العربي، لكنْ لا تتمّ المجاهرة بها لأسباب عديدة. الأهمّ من ذلك، أن المجاهرة أتت عبر طفل، فالأطفال يقولون ما يعجز البالغون عن قوله، بسبب المنظومات الاجتماعية والسياسية والدينية التي ينتمون إليها، وبسبب سعينا الدائم إلى الحفاظ على تلك الصورة، التي نخاف من تشويهها. براءة الأطفال أحيانا سبيل إلى البحث في مسلمات كثيرة تبنّيناها مع الوقت. أنا متحمّس جدًا لعرض "أمي" في بيروت.
برأيك، كيف يتمّ التعامل مع إشكالية الدينيّ والسياسي في الخطاب السينمائي العربي، خاصة أنّ فيلمك تطرّق إلى جانب مهمّ منها؟
للأسف، ارتدت السياسة في أوقات كثيرة ثوب الدين، لتتمكّن من الحكم. الناس يتأثرون سريعا بكلّ ما له علاقة بالدين. كم من الجرائم تُرتكب باسم الدين؟ كم من الأحكام تصدر باسم "الدفاع عن الله"؟ الدين موجود أساسا لدفع الإنسان إلى المحبة والتسامح وتقبّل الآخر. لكن استعمال الدين من جماعات سياسية كثيرة جعل مجتمعاتنا العربية عنفية، ما أدّى إلى تشويه الدين الحقيقي. لا يدعو "أمّي" إلى رفض المنظومة الدينية بالمطلق أو تقبّلها بالمطلق، بل إلى قراءة نقدية ذاتية للأفكار الدينية التي تعيق تطوّر حياتنا اليومية، وطرح الأسئلة حولها.
البحث الذاتي عن إجابات سيطوّر فكرنا ويُعمّقه أكثر فأكثر، فنقرر حينها ما نقبله وما نرفضه. التعميم وقبول الأفكار فقط لأن هناك من وضعها باسم الدين أمرٌ خاطئ، وعلينا طرح خطابات جديدة، تُطوّر مجتمعاتنا. أعتقد أننا محتاجون إلى ذلك في مجتمعاتنا العربية، اليوم قبل الغد، إن كنا نسعى إلى إنشاء مجتمعات أفضل لأبنائنا، تحترم كينونتهم البشرية، وتلبّي طموحاتهم الفكرية. هذه قراءتي للفيلم، ولكلّ مُشاهد الحق في قراءة تناسبه.
17 دقيقة (مدّة الفيلم) تطلّبت منك عاما ونصف العام تقريبا من الكتابة. لماذا هذا الوقت؟ كيف تمّ التعامل مع مسوّدة السيناريو؟ هل جرى تغييره لحظة التصوير؟
استغرق إنجاز "أمي" 18 شهرا، كتابة وتصويرا وتوليفا. المرحلة الأكبر مخصّصة للكتابة. برأيي، السيناريو هو العنصر الأهم في صناعة أي فيلم، إذْ لا يمكن رفع شأن فيلمٍ ما بأيّ عنصر آخر، إنْ لم يكن السيناريو متينا. العكس ليس صحيحا. لذا، قدّمت كلّ ما بوسعي تقديمه، لكتابة فيلم يحكي طموحاتي ورؤيتي السينمائية، ما دفع إلى تغيير مسوّدات كثيرة، وإجراء نقاشات عديدة، قبل بلوغ النتيجة النهائية. على الشاشة، لم يتغيّر الفيلم كثيرا عن المكتوب. طبعا، قمنا باقتطاع مشاهد أثناء التوليف، لأسباب فنية. لكن جُلّ ما تغيّر هو جمل حوارية مكتوبة للياس، التي قالها جاك بطريقته الخاصة، وكما شعر بها. بالنسبة إليّ، السيناريو المكتوب غير ممسوسٍ في التصوير.