رغم مضي سنين كثيرة على صدورها، لا تزال رواية "نساء صغيرات" تجذب وتسحر لغاية اليوم. تعليق لوحة "كامل العدد" في صالة عرض باريسية، تحت عنوان فيلم أميركي مأخوذ عن الرواية المشهورة، دليل يُعزّز "حكمة" اقتباسها للسينما، للمرة الخامسة في قرن ونصف القرن.
الرواية بديعة ومثيرة للعواطف، ارتبطت بطفولة كثيرين وشبابهم في العالم، وأثّرت بأجيال من القرّاء. رواية سيرة ذاتية بجزأين، ألّفتها الكاتبة الأميركية لويزا ماي ألكوت (1832 ـ 1888)، وأصدرت جزأها الأول عام 1868 والثاني عام 1869 (ترجمتها الكاتبة المصرية أمينة السعيد إلى اللغة العربية، وأصدرتها "دار المدى" عام 2017)، وصنع منها هارلي نوليز فيلماً عام 1919، زمن السينما الصامتة، تبعه جورج كوكر في فيلمٍ ثانٍ (1933) مع كاترين هيبورن. ثم جاء دور اليزابيت تايلور وجانيت لي لتأدية دوري البطولة في نسخة ميرفن لوروا (1949)، قبل أنْ يتوقّف آخر اقتباس عند جيليان أرمسترونغ عام 1995، قبل إنجاز نسخة جديدة، من توقيع ممثلة وكاتبة سيناريو ومخرجة أميركية، هي غريتا غيرويغ، صانعة "ليدي بيرد" (2017).
غيرويغ عصرنت الرواية، وأعادت إحياءها من دون أن تخونها حقاً. تناولت علاقات اجتماعية من القرن الماضي في اقتباسٍ حسّاس وحيوي، مصبوغ برؤية عصرية غير بعيدة عن المفاهيم الحديثة، خصوصاً النسوية. غاصت في ارتباطات عائلية لا تزعزعها ريحٌ، بين أخوات أربع: مِغ الحسناء الحالمة، وجو الجريئة المندفعة، وآمي الجميلة المغرورة، وبِثْ الرقيقة السمحة.
في سردٍ مبنيّ على خلفية حرب الانفصال الأميركية (1861 ـ 1865) بين الشمال والجنوب، تنكشف يوميات عائلة الدكتور مارش (العنوان السينمائي الفرنسي "البنات الأربع للدكتور مارش")، التي غادرها الأب للمشاركة في الحرب. عائلة مديونة من دون أن تكون فقيرة. تسعى الأم (لورا ديرن) مع خادمة مخلصة لتأمين مستلزمات عائلتها. في مجتمع له قواعده، حيث الزواج الناجح هدف أهم وربما وحيد لكلّ فتاة، تتفاوت مطالب بنات الدكتور مارش، إذْ تسعى كلّ واحدة منهنّ إلى إثبات نفسها، أحياناً على حساب قِيَم العصر.
يُركّز السرد على الفتيات الأربع: مشاعرهنّ وقصصهنّ اليومية وهواياتهنّ الفنية. جو (سويراس رونان) المتمرّدة والشغوفة بالكتابة تحاول بيع قصصها؛ ومِغ (إيما واتسون)، المُحبّة للتمثيل، أكثر انسجاماً ممّا هو مطلوب منها في حلمها بالزواج من فارس نبيل غني؛ وآمي (فلورنس بوغ) العنيدة تثق بمواهبها في الرسم؛ وبِثْ (إليزا سكانلين) تُفضّل الآخرين على نفسها، وتحاول ـ رغم هشاشة صحّتها ـ أن تتعلّم العزف على البيانو. شخصيات رئيسية، يدعمها لوري (تيموتي شالاميه)، الجار الشاب، المنتمي إلى عائلة نبيلة وغنية، الذي يعيش برعاية جدّه ومعلّمه، ويجد في العلاقة مع جاراته متعة تعيد الحيوية إلى حياته الرتيبة، ومع أمّ تحمل هموم الدنيا على كتفيها، وتنشغل بأعمالها الخيرية للمحاربين والفقراء، ومع عمّة عجوز (ميريل ستريب، الرائعة كعادتها) وغنية وسليطة اللسان، لكنّها مُحبّة للبنات، تعمل لمصلحتهنّ التي تتواءم مع معايير المجتمع، كما تراها هي طبعاً.
الشخصيات مرسومة بأحسن ما يُمكن، لا سيما بالنسبة إلى الفتيات. شخصيات يجد القارئ/ المُشاهد فيها، رغم تكثيف السرد، الشخصيات التي أحبّها بقراءته الرواية. لكن هذا لا ينطبق تماماً على البقية، لا سيما الأمّ التي كان دورها باهتاً، إلا في موقف واحدٍ، أفسحت فيه غريتا غرويغ فرصة لها لتثبيت وجودها وقوّة أدائها، حين انفردت مع جو ـ في نهاية الفيلم ـ في حديث حول مستقبلها. كذلك لوري، الذي لم يتطوّر شكلاً على الأقلّ مع مرور الزمن، وبدا صغير السنّ على الدور، إذْ ظلّ مراهقاً شكلاً وأداءً.
لكن، مع تكثيف الجزأين في ساعتين وربع الساعة، ظلّت غرويغ مخلصة للرواية ولأحداثها الرئيسية، مع اختيار موفّق للقطات مهمّة تُغني عن الحوار بتعبيرها عن شعور أو حدث، كلقطة للوري وهو يراقب فتيات الدكتور مارش من النافذة، ويحسدهنّ على الألفة التي يفتقدها، والتي وجدها في صحبتهنّ.
أما التجديد، فمتأتٍ من البناء السردي، الذي قلب النص الروائي رأساً على عقب، مبتعداً عن تتبّع خطٍّ زمنيّ مستقيم، فكان هناك ذهاب وإياب متواصلان بين زمن وآخر، من دون إنذار أو إشارة، ما أخلّ قليلاً بالتوازن، وأضاع المشاهد. تداخل زمنيّ وخلط مكانيّ أربكا كلّ من لم يقرأ الرواية (هل هؤلاء موجودون حقاً؟). فالمخرجة تنتقل باستمرار بين حدثين يدوران حول شخصية واحدة، أو يربط بينهما خيطٌ ما في زمنين، وأحياناً مكانين مختلفين، من دون منطق درامي، سوى الرغبة في التغيير وإدخال جديدٍ على قصّة كلاسيكية. مثلاً: حين يتبع سير الأحداث إحدى الشخصيات، يحصل تداخل لتداعيات قصّة ما، بين ماضيها وحاضرها. عند الإشارة إلى أنانية آمّي، أو إثارة العلاقة مع لوري، الذي أحبّ جو، ورفضت الزواج به حفاظاً على صداقتهما المتينة والعميقة، ولاعتزامها تحقيق أحلامها بالكتابة، يتتالى مشهدا البوح بالحبّ لجو ومغازلته لآمّي، من دون تبيان أيّهما يحصل في الحاضر، وأيّهما يحصل في الماضي.
اقــرأ أيضاً
إنها معجزة أن ينجح مخرج في إعادة خلق شخصياتِ روايةٍ ما وأمكنتها، لا سيما حين تكون مشهورة، كـ"نساء صغيرات". لكن، من شبه المستحيل تجسيد رواية في السينما من دون تخييب أمل قارئها. هذه رواية أحبّها قارئ رآها مُكثّفة ومُقدّمة بقراءة أخرى غير قراءته، التي احتلّت ذهنه فترة طويلة. غير أنّ فيلم غرويغ ليس كما في خياله وتصوّراته، ولا يُشبه الرواية التي يعرفها. بقيت الشخصيات سطحية والأحداث مبتورة، والمقارنة تتمّ مع مشاهد عديدة، يُرافقها تحسّر: "آه، هنا لم يكن سلوك الشخصية مبرّراً بما فيه الكفاية"، و"لم تفعل هذا في القصّة"، و"أهملوا حدثاً لا يجوز إهماله"... إلخ. تشوّهت روايته، لكنّ، هذه نظرة جزئية وغير موضوعية. إذْ تصعب الكتابة عن فيلمٍ مأخوذ عن رواية محبوبة. بالتأكيد، هذا مُخيّب للآمال، مهما كان رائعاً.
غيرويغ عصرنت الرواية، وأعادت إحياءها من دون أن تخونها حقاً. تناولت علاقات اجتماعية من القرن الماضي في اقتباسٍ حسّاس وحيوي، مصبوغ برؤية عصرية غير بعيدة عن المفاهيم الحديثة، خصوصاً النسوية. غاصت في ارتباطات عائلية لا تزعزعها ريحٌ، بين أخوات أربع: مِغ الحسناء الحالمة، وجو الجريئة المندفعة، وآمي الجميلة المغرورة، وبِثْ الرقيقة السمحة.
في سردٍ مبنيّ على خلفية حرب الانفصال الأميركية (1861 ـ 1865) بين الشمال والجنوب، تنكشف يوميات عائلة الدكتور مارش (العنوان السينمائي الفرنسي "البنات الأربع للدكتور مارش")، التي غادرها الأب للمشاركة في الحرب. عائلة مديونة من دون أن تكون فقيرة. تسعى الأم (لورا ديرن) مع خادمة مخلصة لتأمين مستلزمات عائلتها. في مجتمع له قواعده، حيث الزواج الناجح هدف أهم وربما وحيد لكلّ فتاة، تتفاوت مطالب بنات الدكتور مارش، إذْ تسعى كلّ واحدة منهنّ إلى إثبات نفسها، أحياناً على حساب قِيَم العصر.
Twitter Post
|
الشخصيات مرسومة بأحسن ما يُمكن، لا سيما بالنسبة إلى الفتيات. شخصيات يجد القارئ/ المُشاهد فيها، رغم تكثيف السرد، الشخصيات التي أحبّها بقراءته الرواية. لكن هذا لا ينطبق تماماً على البقية، لا سيما الأمّ التي كان دورها باهتاً، إلا في موقف واحدٍ، أفسحت فيه غريتا غرويغ فرصة لها لتثبيت وجودها وقوّة أدائها، حين انفردت مع جو ـ في نهاية الفيلم ـ في حديث حول مستقبلها. كذلك لوري، الذي لم يتطوّر شكلاً على الأقلّ مع مرور الزمن، وبدا صغير السنّ على الدور، إذْ ظلّ مراهقاً شكلاً وأداءً.
لكن، مع تكثيف الجزأين في ساعتين وربع الساعة، ظلّت غرويغ مخلصة للرواية ولأحداثها الرئيسية، مع اختيار موفّق للقطات مهمّة تُغني عن الحوار بتعبيرها عن شعور أو حدث، كلقطة للوري وهو يراقب فتيات الدكتور مارش من النافذة، ويحسدهنّ على الألفة التي يفتقدها، والتي وجدها في صحبتهنّ.
Twitter Post
|
كما تجلّى الابتكار في إدخال غريتا غيرويغ مفاهيم هذا العصر كالنسوية، لا سيما على شخصية جو، التي أدّتها ببراعة سويراس. بدا هذا من مشهدي البداية والنهاية، مع الناشر وفي المطبعة، بعد تحقيق آمالها. هكذا كانت شخصية آمّي، التي عبّرت عن آرائها بأسلوب بدا معاصراً، لكن من دون مبالغة. وتجنّبت غرويغ كذلك المبالغات العاطفية، حتى مع الأسوأ، لكنّها وقعت في فخّ آخر، فسحر الرواية نابعٌ من رومانسيتها، وممّا تحتويه وتثيره من عواطف غزيرة، من دون أن تكون مأسوية. بتقطيعها الزمني هذا، باستثناء الجزء الأخير وهو الأجمل، الذي راعى الزمن المتسلسل، كانت غرويغ تُخرج المشاهد من الجوّ ولا تدع له مجالاً للتفاعل وهي تنقله من دون توقّف إلى زمنٍ وحدثٍ آخرين، ما يقطع الاندماج الكامل في الحدث، والانفعال مع الشخصية.
إنها معجزة أن ينجح مخرج في إعادة خلق شخصياتِ روايةٍ ما وأمكنتها، لا سيما حين تكون مشهورة، كـ"نساء صغيرات". لكن، من شبه المستحيل تجسيد رواية في السينما من دون تخييب أمل قارئها. هذه رواية أحبّها قارئ رآها مُكثّفة ومُقدّمة بقراءة أخرى غير قراءته، التي احتلّت ذهنه فترة طويلة. غير أنّ فيلم غرويغ ليس كما في خياله وتصوّراته، ولا يُشبه الرواية التي يعرفها. بقيت الشخصيات سطحية والأحداث مبتورة، والمقارنة تتمّ مع مشاهد عديدة، يُرافقها تحسّر: "آه، هنا لم يكن سلوك الشخصية مبرّراً بما فيه الكفاية"، و"لم تفعل هذا في القصّة"، و"أهملوا حدثاً لا يجوز إهماله"... إلخ. تشوّهت روايته، لكنّ، هذه نظرة جزئية وغير موضوعية. إذْ تصعب الكتابة عن فيلمٍ مأخوذ عن رواية محبوبة. بالتأكيد، هذا مُخيّب للآمال، مهما كان رائعاً.